يشبّه الرئيس فؤاد السنيورة لبنانَ، بطفل وضع في منتصف طريق دولي، تمرّ من حوله السيارات والحافلات، وعلى وشك الدهس في أي لحظة. يختصر بتشبيهه هذا، المشاكل التي تتجاذب البلاد، من إقحامه في الصراعات الإقليمية، وإعلان ضمّه إلى محور ضد محور آخر، مروراً بالأزمات الاقتصادية والمالية التي يعيشها، وهي نتاج سياسات غير جدية في مكافحة مسببات هذا التردّي الاقتصادي، وصولاً إلى اختلال التوازن الداخلي على الصعيد السياسي. ويصرّ السنيورة، على ضرورة الاستمرار في وضع الإصبع على الجرح. ولا يترك المسطرة التي يجب أن تكون ميزاناً للالتزام بما هو مفروض أن يُعمل به، ولا ييأس.
بمعزل عن تغير موازين القوى، وبعيداً عن وجود فريق يريد تسيير شؤون البلاد كما يريد، والابتعاد عن منطق التوازن السياسي، وحتى لو لم يكن هناك مواقف علنية لمواجهة هذا المشروع، إلا انه لا بد من الاستمرار في الإشارة إلى التجاوزات، والتحذير من التمادي فيها، لعلّ ذلك يؤدي إلى استفاقة السكران من نشوته، والعودة إلى القواعد سالماً. فيسلم هو وتسلم البلاد. لا مجال للاستقالة هنا. المسؤولية واجبة على الجميع في ضرورة التصويب، مستنداً إلى حديث للرسول يقول: "لو رأى أحدكم علائم يوم القيامة، وبيده فسيلة، فليغرسها". ما يعني التمسك بالأمل.
الخطر الاقتصادي
يقسّم السنيورة المشكلات التي يعاني منها لبنان إلى ثلاثة مخاطر. الأولى، هي اقتصادية ومالية. هناك عجز كامل بالموازنة، بسبب الرواتب، وخدمة الدين والكهرباء. وعجز في ميزان المدفوعات، وعجز في النمو الاقتصادي، الذي امتد على 8 سنوات بنسبة نصف أو واحد بالمئة، أقل من نصف الزيادة السنوية لعدد السكان. وهذه المشكلات بحاجة إلى علاج جدّي، بعيداً عن سياسة التعلّق بالأوهام أو بحبال الهواء. ولا بد من الإثبات للصناديق المعنية أن لبنان جدّي في البحث عن حلول، وينجز ولو مشروعاً واحداً بكل مسؤولية وشفافية، يمكن أن يشكّل مثالاً يحتذى للصناديق الاستثمارية الداعمة، لمساعدته. ويرى وجوب التنبه لهذه المشكلات، لا سيما أن المعالجات المطروحة للمشكلة الاقتصادية والمالية، والتي يقدمونها كعلاج مثل بعض التخفيضات، هي ضرورية لكنها لم تعد كافية. إذ تم تخطي هذه المرحلة ولم تعد الإجراءات متناسبة مع حجم الأزمة. والأمور بحاجة إلى علاج سياسي عميق. ويعتبر السنيورة أن كل المراهنات على النفط واللاجئين، كلها رهانات وهمية. بل كل ما يعدون به الناس هو أوهام.
غسل الأدمغة
الخطر الثاني يتعلق بـ"الخطاب التهريجي"، الذي يزيد من احتقان البلاد، ويظن من يتحدث بهذا الخطاب وكأنه يخاطب جمهوره بينما الطرف الآخر لا يسمعه. وهذا يؤدي إلى التشكيك بالركائز الأساسية التي يقوم عليها البلد. ويشكك بالدولة وحياديتها، وحيادية السلطة القضائية والمجلس الدستوري. ما يزيد كمية الانفصام بين الناس والدولة، وبينهم وبين الجماعات السياسية. هذا الجو يسهم في طرد الكفاءات، واستقطاب الناس على أساس عصبي وعاطفي، يرتكز على حال الخوف التي تتكرس في نفوس الناس، فتصبح أولوية المواطن اللجوء إلى عصبيته الطائفية.
عملية غسل الدماغ جعلت الناس تلتزم بأسلوب حزب الله وتفكيره، من دون أن يدروا. وبالتالي، أصبحنا في حالة ترويض هائلة للمجتمع، والسياسة ووسائل الإعلام. وهذا ينعكس بالحديث بلسان واحد هو لسان حزب الله، من دون أي تفكير أو نقد. لأن العقل تبرمج على صوت واحد، ومن دون وجود صوت آخر ينتج التوازن. وهذا جزء من تغييب الدولة، التي أيضاً أصبحت بشكل أو بآخر خاضعة لمعايير عملية غسل الأدمغة هذه، وخاضعة لمنطق شراء صكوك الغفران من حزب الله الذي يقيّم ويصنّف الناس.
"ممر الفيلة"
الخطر الثالث، هو رمي البلد في الصراع الإقليمي. ما يعني وضعه على "ممر الفيلة". خصوصاً ما أفصحت عنه المواقف الأخيرة التي أطلقها الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، وإعلان ولائه للولي الفقيه. ما يضع لبنان بكليته لدى إيران. الأمر الذي لن يكون البلد قادراً على احتمال تداعياته، سواء في الصراع السياسي العسكري، أو من خلال العقوبات والضغوط المفروضة أميركياً. ويعتبر السنيورة أن الحديث عن تحميل الدولة مسؤولية العمل على لجم العقوبات، وإيجاد طريقة لتجاوزها أو الالتفاف عليها، يزيد من الفتنة الداخلية، لأن الدولة لن تكون قادرة على فعل شيء، وإلا لبنان كله سيكون مهدداً.
القديس توما الأكويني والإمام علي
في تشخيصه، يستند السنيورة إلى قول للقديس توما الأكويني: "إن الله الذي خلقك من دونك، لا يمكن أن يخلّصك من دونك". ما يعني، لا يمكن الخروج من هذه الأزمات والخلاص منها، من دون الإقتناع بذلك. وحتى الآن، وفق السياسة المتبعة حالياً، القائمة على الهروب إلى الأمام، أو التعالي على الاعتراف بوجود المشاكل، أو اختلاق وافتعال مشاكل جديدة داخلية أو خارجية، لن يسهم إلا في تعميق الأزمة. ويضرب مثلاً ما حدث مع تركيا بعد أيام على زيارة وزير الخارجية التركي وعقد مباحثات معه.
هنا، يستذكر السنيورة قولاً للإمام علي بن أبي طالب: "ليس كل ما يُعْرَف يُقال، وليس كل ما يُقال حَضَرَ أهلُه، وليس كل ما حَضَرَ أهلُهُ حان وقته، وليس كل ما حان وقته صَحَّ قوله". وهذا ينطبق على ما حدث مع تركيا. كما ينطبق على أحوال أخرى. ولا يمكن الركون إلى مبدأ أن هذه الطريقة في الخطابة تكسب صاحبها المزيد من الناس.
تدمير ممنهج لـ"الطائف"
الأساس بالنسبة إلى السنيورة يبقى في استعادة التوازن الداخلي، وفي استعادة التوازن للسياسة الخارجية. وهذه تبدأ من خلال الاستمرار بتصويب المواقف. بطريقة علمية وهادئة، لأنه لا يؤمن بأي شكل من أشكال العنف الكلامي.
يرى السنيورة أن ما يجري هو تدمير ممنهج لاتفاق الطائف. وهو مستهدف بما يعنيه من ضرب للعيش المشترك. وهناك من يتجه بالبلد للترويج لحلف الأقليات. وهذا مخالف لتوجهات الفاتيكان. وهذا أخطر أمر ينعكس على المسيحيين. ويخاطب السنيورة المسيحيين أن تفسير "التوازن الطائفي" في الإدارة والدولة على هذا النحو الشكلي والعددي حصراً بمعنى "حصتكم محفوظة سواء كنتم نافعين أم غير نافعين، فعالين أم غير فعالين" لن تؤدي سوى إلى تدمير المجتمع.. وكل الناس من أصحاب الكفاءات تخرج من البلد، وتجعله مجتمعاً متدني الكفاءة. فمثلاً في العام 1975 وما قبله، كان البلد يشهد تنافساً رشيداً بين المسلمين والمسيحيين، حول من يرسل إلى الإدارة أكفأ ما لديه. ما يحصل اليوم هو التباري على من يدخل إلى الإدارة أتفه ما لديه، من المستزلمين والتابعين والمتملقين.. وهذا ينحو بلبنان إلى عصر إنحطاطي مديد.
منير الربيع - المدن