من عاش في بيروت الشرقية أو بيروت الغربية في الحقبة الممتدة بين منتصف السبعينات ونهاية الثمانينات، اختبر مسلسلات مروّعة من حروب الزواريب بين الأخوة الأعداء أوبين الحلفاء أو "أبناء الصف الواحد" (حسب رطانة سائدة)، كانت تبدأ وتنتهي في ساعات أو في أيام قليلة. فجأة يبدأ الاشتباك وينهمر الرصاص وتنطلق القذائف الصاروخية ويسقط القتلى والجرحى، وتقفل المحال والمدارس وتفرغ الشوارع من المدنيين المذعورين، ويحل الخراب وتقع الخسائر ويسقط الضحايا.. ثم تحل "المصالحة".
كان بإمكان أي زمرة مسلحة في أي شارع أن تصطدم بزمرة أخرى، لأتفه سبب أو لمجرد الاستعراض والمباهاة، ما يكفي لرفع السلاح والبدء بإطلاق النار.. قبل أن "ينضبّوا" ويتصالحوا. أما ما يحل بالسكان وبالشارع وبالمدينة من إعدام للحياة وللأمن فلا يُساءل أحد عليه. حتى القتلى الأبرياء يخسرون أرواحهم سدى من غير محاسبة أو مساءلة للقتلة والمجرمين والعابثين بحياة الناس.
في واحدة من تلك المعارك الشهيرة، اكتملت "المصالحة" حين تم الاتفاق على تقاسم المسروقات من أحد المحال التجارية في شارع الحمرا. كما أن الاشتباكات المتواترة في منطقة الروشة مثلاً كانت من أجل الوصول إلى "مصالحة" و"تفاهم" حول النفوذ على بارات الدعارة وأوكار القمار وجمع الخوّات من المؤسسات التجارية.
في أحيان، كانت زمرة طلاب تفتعل اشتباكاً وهمياً كي تقفل مدارس المنطقة، فيتسنى لهم الغياب عن الصفوف. كذلك، سُجلت في تلك الحقبة بعض الاشتباكات بين طوابق بناية واحدة قامت بها نساء جارات اختلفن على المياه أو على شريط كهربائي.. وينتهي الأمر بـ"مصالحة" تتولاها أحزاب وشخصيات وقادة ميليشيات.
أما خريطة الحلفاء والأعداء فهي متقلبة ومختلطة ومتداخلة ومتفاوتة، وتتغير بين ليلة وضحاها، ولا ينظمها خطاب عقلاني ولا قيم ولا مبرر سياسي، هي أشبه بمهادنات بين غارات غدر وكمائن، وهي لا تعفي الجماعة الواحدة من أن تفتك بنفسها عصبة ضد عصبة، وشلة منقلبة على شلة.
على هذا المنوال، حلّ تقليد في الحياة السياسية اللبنانية متناسل من تاريخ الميليشيات قوامه افتعال الاشتباكات الإعلامية والكلامية والتحريض على القتال لفظاً وضغينة ومخاصمة، كوسيلة للمنازعات السياسية اليومية التي تبتغي "مصالحة" تثبت مكاسب أو مغانم أو مكانة ونفوذاً.
ومسلسل المخاصمة والمصالحة السائد في السنوات الأخيرة وفي أيامنا هذه، يُدخِل اللبنانيين باستمرار في دوامة الهلع وانعدام الأمان ودفع الأثمان وتكبد الخسائر والسكوت عن الاقترافات وعن ما حلّ بهم، من غير مساءلة أو محاسبة للمسؤولين عن نكباتهم المتكررة. وهذا ما يتيح للسياسيين و"القادة" الاستخفاف بالناس ومشاعرهم ومصالحهم، طالما أنهم طيعون في الاستجابة لهم ساعة يشاؤون تعبئة طائفية أو حزبية أو مناطقية أو عائلية، ومتطوعون حتى لبذل أرواحهم وممتلكاتهم افتداء لما يطلبه زعيمهم.. وبالحماسة نفسها، والقبول ذاته، يمكن لهؤلاء "الزعماء" أن يجرّوا أتباعهم ومريديهم بلحظة واحدة من خنادق العداء إلى "مهرجان المصالحة" بغمضة عين ومن دون مقدمات.
تصاب "الرعية" بالحمية حين يستدعيهم النفير إلى الاعتصاب والاحتشاد، كما تصاب بالغشية السادرة حين تتفرج على مصافحة مباغتة بين القادة الأعداء، أو حين تشاهد تبادلهم القبلات والضحكات.
وانعقاد "السياسة" على هذا التقليد وحده، أفضى بلبنان وأهله إلى حال مزرية ومشينة، إذ بات ينظر إلى هذا البلد وأحواله وأخباره كمن ينظر إلى قبائل السلب والغزو والثأر والديّة والفدية ومصالحات "تبويس اللحى" وتفاهمات عصابات الجريمة المنظمة، المنتكسة كل حين، عندما تأتي سانحة الانقضاض أو الاستيلاء.
والفارق بين سبعينات وثمانينات القرن الماضي والعشرية الثانية من هذا القرن، أن سلاح الفوضى والعصابات المنظمة ورجال الميليشيات ارتقوا إلى سوية السلطة والدولة وإلى سدة تمثيل الجماعات والطوائف، وأمسكوا السياسة وشؤونها كما تربّوا واعتادوا. والأسوأ منهم هم أولئك "الجدد" الذين اعتنقوا مسلك الميليشيات من غير خبرة ولا ذاكرة ولا تجربة، فأظهروا "شراسة" فاقت العتاة القدماء الذين اكتسبوا ربما بعض الروية أو بعضاً من حكمة الشيخوخة.
وكما تورث الزعامة ومناصبها وحصصها ورعاياها (وأسلحتها ووزاراتها ومقاعدها النيابية وقضاتها وضباطها ومدراؤها)، يرث الأبناء والأحفاد تقاليد الحروب العابرة والمصالحات المؤقتة بما لا يمت للسياسة ولا معانيها، وبما يتصل بالعشائرية شكلاً والمافيوية مضموناً.
يوسف بزي - المدن