"خلافاً لما تقوله الدولة اللبنانية فإننا لم نطلب منها وضع ضرائب ورسوم جديدة. إنما طالبنا بإصلاحات جِدّية، وبالتالي فإن إقدام الحكومة اللبنانية على وضع هذه الضرائب والرسوم لا يعفيها من القيام بإصلاحات. وهذا معيار الحكم لدينا في الدول المانحة وليس الضرائب". يختصر هذا الكلام المنسوب إلى المبعوث الفرنسي بيار دوكان، المسؤول عن ملف مؤتمر سيدر في لقاءاته بالمسؤولين، لغز الأزمة المالية والاقتصادية المستعصية. يصل إلى عمق الأزمة حين أبلغ المسؤولين "أن أي اصلاحات وتدابير مالية واقتصادية يجب أن يسبقها وفاق سياسي داخلي لحمايتها، وتعبيد الطريق أمام تنفيذها والاستفادة من مفاعيلها، وإلّا يبقى كل إجراء أو تدبير هشًا".
بينما كان دوكان يجول على المسؤولين، أطلّت علينا وكالة ستاندرد أند بورز من الخاصرة الرخوة، لتشكك في قدرة لبنان على الدفاع عن سعر الصرف، لو استمر عجز ميزان المدفوعات وتراجع التدفقات النقدية الخارجية. الوكالة غاصت مرةً أولى علانية في خزين مصرف لبنان من العملات الأجنبية. وحاولت تفكيك ما لمصرف لبنان منها وما عليه من التزامات. وهذا شأن محظور على الرأي العام، منذ تبني سياسة تثبيت سعر الصرف مطلع التسعينات. وكأنها ترسل إشارة سالبة، مفادها أن الشهور الستة التي منحتها الوكالة للبنان لإصدار تصنيفها لن تكون بردًا وسلامًا.
القرارات غير التوصيات
لا يهم كثيرًا ما اذا كان دوكان قام بزيارة مقررة قبل لقاء بعبدا الاقتصادي، كما تردد، أم بـ"غارة" بعد اللقاء. اللقاء لم يتخذ قرارات. ولا صفة له بذلك. خرج بتوجهات واقتراحات تحتاج إلى ترجمة فعلية. مكان ذلك في مجلس الوزراء سلطةً اجرائية، وفي مجلس النواب إن احتاج الأمر إلى تشريعات وقوانين. وسيحتاج إلى منظومة منها على الأرجح. لو تمحّصنا ما سبق جلسة مجلس الوزراء الأولى بعد لقاء بعبدا، التي رفعت شعار حالة الطوارئ الاقتصادية، وما سبق الجلسة، لتأّكد أننا بتنا في حاجة إلى حالة طوارئ سياسية لا يقوم بها إلاّ الشعب. كل البلايا التي نحن فيها غابت وحضرت التعيينات القضائية المتنازع عليها سياسيًا. وهي ضرورية وملحة. فلا تكتمل دولة من دون قضاء. وسائل الإعلام راحت تتحدث عن هذا القاضي لهذا المركز، وعن ذاك لمركز آخر، على جاري المألوف من الاستحصاص السياسي، لسلطة مستقلة بالدستور ولا يفترض أساسًا أن تخضع تعييناتها للسلطة السياسية. هل هذا الأسلوب ترجمة لتوصيات لقاء بعبدا؟ وهل يصلح ليعود به الموفد الفرنسي ليطمئن رئيسه إيمانويل ماكرون وسكرتاريا مؤتمر سيدر، بأن لبنان جادٌ للبدء في الإصلاح والحصول على تعهدات المؤتمر والشروع في تنفيذ المشاريع الحيوية؟
كيف يمكن أن نلج إلى الإصلاح من بوابة الاستحصاص السياسي. لم نرَ كمثل هذا العهد تمتد فيه يد السياسيين إلى كل مفاصل الدولة من الموظف العادي إلى المدير العام وكل فئات الوظيفة الأولى. العاملون في القطاع العام يؤدون خدمة للمواطن والشعب اللبناني. ومنهما تموّل رواتبهم بالدين والفوائد. هذا الشبق لاستباحة الوظيفة في القطاع العام، واسترهانه لمنافع السياسيين، هو الذي يفسّر كيف خالف مجلس الوزراء قانون منع التوظيف بحشر نحو 9 آلاف موظف بالتعاقد قبل أن يجف حبر موازنة 2018. هذه قمة الفساد السياسي والإداري، أُمّ كل أنواع الفساد الأخرى التي تستبيح المؤسسات، وتحرم خزانة دولة من حقوقها. أمّا أن تصل الاستباحة إلى التعيينات القضائية وبهذا الشكل المخجل، فأي إصلاح يرتجى، وأي مخرج من أزمتنا؟
سأخرج عن المألوف، لأشهد كلمة أحسبها حقًا. من دون الانتقاص من كل الأسماء التي طُرحت لتولي المراكز القضائية، سمعت أن القاضي سهيل عبود مرشحٌ لرئاسة مجلس القضاء الأعلى. هذا القاضي الذي لم يتيسّر لكاتب السطور لقاؤه وجهًا لوجه سنوات الحرب وسيطرة الميليشيات، كان عضوًا في غرفة بيروت الأولى – محكمة الإفلاس- التي نظرت بكل الافلاسات المصرفية من مصرف المشرق، ومبكو، واللبناني العربي، والتجارة الخارجية وغيرها. لم يكن هناك سلطة دولة بل الميليشيات كانت. كل تلك المصارف نُهبت من كبارها وأفلست لأسباب ليست اقتصادية. ولم يبقَ طرف لم ينل حصة منها. وتناوبوا عليها وسرقوا أموال المودعين، الذين بالكاد حصلوا على القرش الدائر بالتصفية. لم نسمع، وكنا نتابع تلك الملفات بدأب، لا بالمباشر، ولا بالتلميح إلى شائبة ارتكبها عبود. وكان نزيهًا يليق بالقضاء وبه القضاء يليق. علامَ يلوكون إسم هذا القاضي وأمثاله، طالما يمعنون في ترداد مفردات مكافحة الفساد والشفافية أراجيف تبعث على الاشمئزاز والسخرية؟
غادر دوكان وشهد على تكلؤ لبنان في القيام بالإصلاحات. وعلى عجز مؤسسة مجلس الوزراء التقرير في القضايا الرئيسة إلاّ بالتسويات من خارج المؤسسات. وينتظر هو الآخر موازنة 2020 في المهل الدستورية لخفض العجز والاصلاح. وزير المال علي حسن خليل، يقول، أن موازنة 2020 لن تشهد ضرائب جديدة على البنزين والفوائد. وربما على غيرها خلافًا لتوصيات لقاء بعبدا. هذا يستلزم مصادر تمويل من مواطنها حتى نصل إلى 7 في المئة عجزًا فعليًا وليس تقديرًا. كل ذلك إشارات غير مقنعة للعمل الجِدّي. على مجلس الوزراء وضع جدول أعمال من نوع آخر. في رأسه تأسيس الهيئة الناظمة للكهرباء ومجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان. وقبل الولوج في تنفيذ خطة الكهرباء. لم يعد لدينا مليارات الدولارات نزهقها على هذه المسخرة وعلى ملف استيراد المحروقات التي لا يراقب نوعيتها أحد.
الخاصرة الرخوة
تقرير ستاندرد أند بورز الذي خصّ به مصرف لبنان تحديدًا، وقدّر أن احتياطه القابل للتصرف لن يتجاوز 19.2 مليار دولار أميركي في نهاية 2019، ذو أثر سيء. علمًا أن المصرف كان أعلن ارتفاع موجوداته من العملات إلى 38.6 مليار دولار أميركي. كان معلومًا أن تلك الموجودات ليست احتياط المصرف الصافية، بل ومعظمها توظيفات للمصارف، ونتاج الهندسات المالية المستمرة لجذب الدولار الأميركي لتثبيت سعر الصرف. ولم يكن مصرف لبنان يعلن ما له من موجوداته الاجمالية وما للمصارف. "الاحتياط القابل للتصرف" قصدت به وكالة التصنيف التفريق بين توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان، وبين احتياطه الصافي المحرّر من الأعباء. ربما اعتبرت ستاندرد اند بورز في احتسابها "الاحتياط القابل للتصرف"، أن مصرف لبنان مقيّد في التصرف بتوظيفات المصارف لديه. وقد بقي هذا الأمر غامضًا سنوات طويلة. بيد أننا نستنتج أن مصرف لبنان الذي يدفع فوائد عالية للمصارف لقاء تلك التوظيفات، مخوًل ضمنًا التصرف بها حين الظروف الطارئة. بينما يوحي تقرير ستاندرد أند بورز بـ"الاحتياط القابل للتصرف" خلاف ذلك. وهذا الجانب ذو حساسية في العلاقة بين مصرف لبنان وبين المصارف ويتم التعامل معه بالتوافق. كبار المسؤولين على علم بذلك. بقي أن يفعلوا. دوكان غادر خائبًا والتصنيف بلغ الأحمر.
عصام الجردي - المدن