لم يكن الشريف حسين وأبناؤه والناس الذين حكموهم في شبه الجزيرة العربيّة، بل في المنطقة التي صارت المملكة العربيّة السعوديّة، من المسلمين الشيعة ولا العلويّين ولا الدروز ولا من المسيحيّين طبعاً وسائر الأقليّات الاتْنيّة والعرقيّة الذين يعيشون داخل السلطنة العثمانيّة التي قامت عام 1516. بل كانوا أوّلاً مسلمين سُنّة أي ينتمون إلى الأكثريّة السُنيّة التي من شعب السلطنة، وثانياً عرباً رغم أن العروبة في ذلك الحين لم تكن عاملاً جامعاً لأبنائها بل اللّغة ومعها الإسلام الذي صار دين المنطقة بفعل الفتوحات المعروفة. وقد جعلهم إسلامهم السُنّي كما إسلام رعايا السلطنة غير العرب أقرب إلى الباب العالي فيها وإلى رؤساء حكوماتها ووزرائها وولاتها الذين حكموا المناطق التي كانوا ينتشرون فيها. وفتح ذلك لهم باب تقلّد مناصب مُهمّة متنوّعة بحيث باتوا جزءاً فعليّاً من الدولة. طبعاً تولّى عدد من الرعايا المسيحيّين أيضاً مناصب فيها سواء كانوا عرباً ولا سيّما في آخر قرن من عمرها، أو كانوا من أبناء المقاطعات الأوروبيّة المسيحيّة سواء "أسلموا" كما فعل بعضهم أو بقوا على دينهم. انطلاقاً من ذلك لا ينكر أحد أنّ استقرار السلطنة قروناً ما كان ممكناً لولا اهتمام ملوكها ومسؤوليها بأحوال رعاياها وخصوصاً في القرن الأخير يوم بدأت الأمراض تنخرها جرّاء النهضة التي بدأت في أوروبا في القرن السابع عشر والتراجع في القوّة العسكريّة وازدياد الفساد وخصوصاً في امبراطوريّة مترامية الأطراف، وبدء الدول العظمى في حينه أي روسيا وبروسيا (ألمانيا لاحقاً) وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وغيرها استغلال الكثير من أوضاعها غير المستقرّة وتراجع شعبيّتها في المناطق التركيّة وغير المُسلمة. وكانت حجّة بعضها الدفاع ضد أعدائها وحجّة البعض الآخر زيادة ضعفها للنيل من أعدائه الواقفين معها. والثابت أنّ مصالح حلفائها والأخصام كانت وراثتها بعد تحوّلها في نظر العالم "الرجل المريض"، وهو وصف استعمل كثيراً ولا سيّما في المواقف المُعلنة والكتابات السياسيّة والديبلوماسيّة وغيرها. ولا ينكر أحد أيضاً التطوّر "الديموقراطي" الذي بدأ في اسطنبول العاصمة ورهان عرب السلطنة عليه تماماً مثل رهان "مواطنيهم" الأتراك. لكن لا ينكر أحد في الوقت نفسه أن التطوّر المذكور لم يعمّ السلطنة كلّها ولم يُساعدها للصمود في وجه أعدائها وحلفائها في آن واحد لأنّه تأخّر. فضلاً عن أنّ "التعامل" السهل والمريح مع الرعايا غير الأتراك من مسلمين شيعة وسُنّة وعلويّين ومسيحيّين من العرب وغيرهم لم يكن دائماً. إذ تخلّلته حملات قمع سواء في آخر عقدين من القرن العشرين أو قبلهما بسبب رغبة بعض الشعوب غير التركيّة في الاستقلال أو بسبب القمع الذي تعرّض له. وشمل ذلك العرب وغير العرب.
في هذا المجال لا بُدّ من الإشارة إلى أن العرب المسلمين بمذاهبهم كلّها كانوا توّاقين إلى الاستقلال في دولة واحدة بعد بروز أفكار العصر التنويري ومنها الدولة – الأمّة والقوميّة والحريّة... وكذلك كان المسيحيّون العرب. و"تحالفهم" مع بريطانيا في ذلك الحين الذي أطلق ما سُمِّي "الثورة العربيّة" عام 1917 ربّما كان خيانة في نظر المسلمين ولا سيّما السُنّة. لكنّه لم يكن كذلك إذ استيقظت العروبة فيهم والرغبة في التحرّر بعدما شعروا بأنّ "السلطنة – الخلافة" صارت دولة "تتريك". علماً أن السلطنة نفسها جعلت نفسها عقوداً كثيرة قبل انهيارها أسيرة بريطانيا والدول الأخرى المُشار إليها، جرّاء ضعفها والفساد الذي نخرها وسياسة الكبت والقمع ضد رعاياها أتراكاً وغير أتراك.
طبعاً يعترف كاتب "الموقف هذا النهار" أنّ ما تناوله الرئيس ميشال عون في خطابه المُفتتح "مئويّة لبنان الكبير" جانبته الحكمة نظراً إلى الانقسام العميق داخل لبنان شعبيّاً وطائفيّاً ومذهبيّاً ودينيّاً. إذ كان يُفترض أن ينتبه من كتبه إلى أن للسُنّة شعوراً مذهبيّاً مماثلاً لشعور الشيعة والدروز وشعوراً دينيّاً مماثلاً للذي عند المسيحيّين، وأن الشيعة يُوالون إيران الشيعيّة ويعتمدون عليها للإمساك بالبلاد بتأييد قسم من مسيحيّيها، وأن السُنّة يطمحون إلى دولة سُنيّة كبيرة تقف إلى جانبهم في هذه "المحنة". وإذا كان أشقاؤهم العرب (السعوديّة – مصر) غير قادرين لأسباب متنوّعة على المساعدة في الظروف الحالية غير المناسبة، فلم الابتعاد عن تركيا التي يؤكّد مُتابعو اتجاهات الدول الكبرى في العالم أنّها ستكون أحد أضلاع "المثلّث" الذي سيدير المنطقة بالنيابة عن العالم بعد انتهاء حروبها وقيام نظام اقليمي جديد فيها؟
ما الحلّ في هذه الحال؟ هو العودة إلى العروبة التي لا يمكن إضعاف علاقتها بالإسلام والتي حلّ الإسلام المتشّدد مكانها عند كل المُنتمين إليه. ولكن التي تعمل فعلاً وليس قولاً لبناء الدولة المدنيّة العربيّة في لبنان، دولة المواطن والعدالة والمساواة والحريّة والديموقراطيّة. وهو أيضاً اقتناع شعوب لبنان بل قادتها والزعماء من رجال دين ودنيا بأنّ قيام دولة حقيقيّة في البلاد، وبأن تحوّل تعايشها المشترك الكاذب عيشاً وطنيّاً ومواطنيّاً حقيقيّاً لن يتحقّقا إذا لم يُطبّقوا نصّاً وروحاً وفعلاً وقولاً أهمّ مادة في اتفاق الطائف وفي دستورنا المنبثق منه، يخرجنا مضمونها من الطائفيّة والمذهبيّة ويدخلنا رحاب الدولة المدنيّة الخالية من القيود التي أفرغت إنجازاً كهذا من مضمونه بل من روحه. وينصّ البند المُشار إليه على مجلس نيابي خالٍ تماماً من الطائفيّة والمذهبيّة وعلى مجلس شيوخ يتساوى فيه تمثيل الطوائف والمذاهب. ولبنان يحتاج إلى ذلك اليوم وفي سرعة أي من دون "لجنة" تدرس إلغاء الطائفيّة السياسيّة ومع قانون انتخاب يؤمِّن تمثيلاً حقيقيّاً يفضّل ابتعاده عن النسبيّة لأن لا أحزاب في لبنان. إلّا إذا قرّر حُكّام شعوبه تحويل كل منها أي كل طائفة ومذهب فيها حزباً. لكن ألّا تنقسم بدورها على نفسها بسبب الطموحات والمصالح الخاصة لا العامّة؟
سركيس نعوم - النهار