التكهنات كثيرة في الأوساط الشعبية والرسمية والسياسية العراقية والعربية حول الجهة التي تقف وراء تفجير أربعة مراكز – مخازن عسكرية مرتبطة بإيران في العراق. لكن لا دليل حاسماً ونهائياً عندها عن هوية مقرّري التفجيرات ومنفذيها. السلطات في بغداد استنتجت أنها متعمّدة، لكن دلائل وإشارات معيّنة توحي أنها كانت نتيجة عمليات تخريب أو ضربات عسكرية جوية. وإذا صحّ ذلك تكون اسرائيل المتهم الأول. ويقود ذلك الى الشك في أنها صارت قريبة من توسيع حملتها العسكرية المعادية لإيران ووكلائها في سوريا، بحيث تشمل العراق باعتباره جزءاً من استراتيجيتها لكبح التهديد الإيراني لها. واذا كانت إسرائيل تخطّط لجعل المعركة قريبة جغرافياً من إيران فإنها ستجد العراق أكثر التهاباً وقابلية للاشتعال من سوريا. ومن شأن ذلك التسبب بمضاعفات لحليفها الأميركي القوي كما للسلام الاقليمي كلّاً.
كم عملية تفجير نُفّذت في العراق منذ شهر تموز الماضي؟ واحدة نفّذت بتاريخ 19 تموز في وحدة "الحشد الشعبي" الموالي لإيران والمدعوم منها الكائن في محافظة صلاح الدين شرق بغداد. وبعد بضعة أيام لامت مصادر محلية الولايات المتحدة بسبب تفجيرات أخرى نُفّذت في مخيم "شرق أشرف" لـ"الحشد الشعبي" القريب من الحدود الإيرانية. وفي الثاني عشر من آب هزّ انفجار مخزن أسلحة لـ"الحشد" نفسه في جنوب بغداد. وبعد ثمانية أيام ضربت تفجيرات مُنشأة تخزينية لسلاح "الحشد" أيضاً شمال بغداد. وقد أوحت صور الأقمار الاصطناعية أن المراكز المذكورة تضرّرت بوضوح جرّاء التفجيرات. طبعاً ترددت حكومة الدكتور عادل عبد المهدي العراقية في توجيه اللوم لأي جهة أو الاتهام، لكنها أعلنت أن تفجير 12 آب نفّذته طائرة استطلاع مُسيّرة. واذا أظهرت الأدلة أن التفجيرات غير مقصودة فإن الأنظار ستتجه الى إسرائيل لأن لها دافع عسكري قوي. فإيران تحاول نقل نصف "ممتلكاتها" أي معداتها العسكرية المهمة والدقيقة الى العراق بعد تكرار إسرائيل ضرباتها المؤذية لهذه "الممتلكات" في سوريا. وإيران تسعى الى زيادة نفوذها في العراق وتريد تأسيس جبهة جديدة لمواجهة هجمات إسرائيل على جماعاتها العسكرية ومعداتها. ولإسرائيل في المقابل دافع لتنفيذ عمليات عدائية تمنع إيران من استكمال بناء قوة عراقية رادعة ذات صدقية منفصلة عن الردعية اللبنانية لـ"حزب الله". طبعاً لاسرائيل دوافع أخرى غير استراتيجية لجعل العراق ساحة لضرباتها العسكرية، منها الانتخابات العامة فيها واستشراس نتنياهو في استغلال أي فرصة محلية وإقليمية ودولية للفوز فيها. ومنها أن الطيران الحربي والاستطلاعي الذي تستعمله للوصول الى العراق "أميركي"، وذلك لا بد أن يحيّر العراقيين وحتى الإيرانيين أو العاملين معهم من هؤلاء.
هذا التحليل المعلوماتي هو جزء من دراسة جدّية أعدّها مركز أبحاث أميركي معروف بسعة إطلاعه وقدرته على الوصول الى المعلومات من مصادرها. والجزء الثاني منها يتناول أثار قرار إسرائيل توسيع عملياتها العسكرية في العراق عليه وعلى أميركا وإيران وعلى نفسها أيضاً. وفي هذا المجال تشير الدراسة الى أن الولايات المتحدة ليست وحدها هدفاً جلياً للقوات العراقية الموالية لإيران، إذ أن الدول الأخرى في المنطقة التي تقترب أكثر فأكثر من إسرائيل مثل السعودية والامارات والبحرين صارت أيضاً أهدافاً لها. والتعديات على ديبلوماسيين يمثلون بعضها في بغداد دليل على ذلك، وكذلك المضايقات المتزايدة لـ"الحشد الشعبي" للأطراف الوطنية السنّية وغيرها المعادية لطهران. ورغم المحاولات الرسمية المستمرة لجعل "الحشد" جزءاً من البنية الأمنية للبلاد فإنه مستمر في مقاومة ضبط بغداد له. علماً أن عدداً من العراقيين يلومون إيرانية "الحشد" لتسببه بالضربات التفجيرية الاسرائيلية. ومن شأن ذلك تغذية صراع داخلي في العراق وتهديد أي تحرّك حكومي عسكري – أمني ضد "الحشد" بالفشل. طبعاً إذا نفّذت اسرائيل حملة مستمرة على "موجودات" إيران في العراق فإنها ستخلق مشكلات لها غير الخسائر المتزايدة لوكلائها فيه ولمعداتها العسكرية. أولاها إضعاف صدقية استراتيجيتها الاقليمية القائمة على استعمال الوكلاء في حربها الكبيرة. وستكون لذلك انعكاسات داخلها أبرزها مواجهة ذراعها العسكري أي "الحرس الثوري" و"فيلق القدس" تحدياً مهماً هو تقليص الايجابيات الموعودة لمعركتها بل حربها مع إسرائيل. وثانيتها احتمال "اشتعال" علاقة إيران مع أميركا ولا سيما اذا استهدفت عسكرياً قوات الثانية في المنطقة، الأمر الذي يدفعها الى حرب واسعة مع الاميركيين بعدما كانت غطّت نفسها بالحرب بواسطة الوكلاء والحلفاء. انطلاقاً من ذلك يبقى الظن أن عمل اسرائيل في العراق ينطوي على مخاطرة كبيرة لأنه قد يطلق حرباً اقليمية واسعة رئيسية. فالعمل في العراق يختلف عن العمل في سوريا حيث استطاعت إسرائيل تنفيذ معظم استراتيجيتها المعادية لإيران فيها من دون التسبّب بحريق إقليمي كبير. وذلك صعب في العراق.
في النهاية يختصر واضعو الدراسة مضمونها بأربعة تعليقات صغيرة. أولها أن مسؤولية إسرائيل عن التفجيرات المُشار إليها أعلاه في العراق جدية. وثانيها أن العراق سيبذل كل جهده من أجل منع تحوله ساحة للحرب بالوكالة بين إسرائيل وأميركا استطراداً وبين إيران. وثالثها أن العراقيين الوطنيين والفصائل المؤيدة لإيران والمجموعات السنية والمواطنين العاديين سيكافحون للتوافق على ما اذا كانوا سيدفعون الولايات المتحدة الى الوراء أو إيران نتيجة للعمليات الاسرائيلية. ورابعها يمكن لعمل إسرائيل في العراق أن يطلق حرباً عامة بين إيران وأعدائها الإقليميين. لكن في النهاية أيضاً لا بد من الاشارة الى معلومة موثوقة واردة من بغداد تفيد أن بعض التفجيرات موضوع "الموقف هذا النهار" اليوم كان نتيجة معارك بين فصائل "الحشد الشعبي" بسبب صراع ربما على المراكز والنفوذ. وربما لهذا السبب امتنعت حكومة بغداد عن اتخاذ موقف رسمي واضح جداً يحدد المسؤوليات.
سركيس نعوم - النهار