يروي أحد المقربين من الرئيس الراحل كميل شمعون، رواية تهكمية ظريفة عن لسان الرئيس اللبناني الراحل، الذي كان أهم من أجاد استخدام صلاحياته الرئاسية.
الحويكان والبيروتان
تقول الرواية التي تحوي جانباً من السخرية، ووجهاً عمقاً من تفكير فئة واسعة من اللبنانيين: "بعد اجتماع قادة الجبهة اللبنانية في بيروت الشرقية أثناء حرب السنتين (1965 – 1976)، صادف شمعون رجلاً من آل الحويك، فتوجه إليه قائلاً ممازحاً: يا حويك، البطرك الحويك هو سبب مصيبتنا اليوم".
لم يفهم الرجل ما قصده الرئيس شمعون، فأصر مستفسراً، وأوضح له شمعون: "البطريرك الحويك كان مصراً على تكبير لبنان، وجعله لبنان الكبير، ولم يكتف باستقلال جبل لبنان. وهذا التوسيع ضمّ إلى جبل لبنان مناطق أكثريتها السكانية مسلمة. ولو لم يحصل ذلك، لما تعرضت بيروت الشرقية للقصف من بيروت الغربية في هذه الليلة، ولما كان هناك من داع لاجتماع قادة الجبهة اللبنانية".
تمثل الرواية، على بساطتها وسخريتها، جوهراً عميقاً في قلوب بعض الموارنة. وهي كفيلة بتوضيح سنوات الصراع الذي شهده لبنان على الصلاحيات والنفوذ وكيفية إدارة شؤون الدولة السياسية في حقبة ما بعد الاستقلال. ولا شك في أنها تلامس جانباً عميقاً من وجدان كثرة من اللبنانيين الذين لا يعترفون إلا مجبرين بالشراكة مع أقرانهم الآخرين". وهذا منطق ثابت ويتكرس في الكثير من المحطات السياسية، الإنمائية، والإدارية اللبنانية. فالإنماء مثلاً تركز في مناطق جبل لبنان، بينما بقيت مناطق أخرى مهمشة، كطرابلس والشمال، وبعلبك الهرمل، والجنوب، التي كانت تعتبر دخيلة على الجسم اللبناني القح في الجبل.
وهذا يفسر أيضاً الصراعات الطويلة على جبل لبنان الجنوبي، الذي كان الموارنة يهدفون إلى السيطرة عليه، وفي فترة من الفترات، كان المسعى إلى الإستفادة من الضعف الجنوبي، لتوفير الحماية من الكيان الوليد على الحدود الجنوبية وهو الكيان الإسرائيلي. ولا يحتمل الكلام هنا أي مجال للتأويل أو التخوين، إنما الإضاءة على جوانب مهمّشة من التاريخ السياسي والاجتماعي للبنان، والتي إذا لم تتم مواجهتها بحقيقتها، فإن الهروب إلى الأمام وتجاوزها، سيبقي على تفاعل الأزمات ويستمر باستيلادها.
أزمة عون -تركيا
معروفة مكانة شمعون في قلوب اللبنانيين المسيحيين، وهو القائد الملهم الذي ألهم كثيرين، ولم يكن التيار الوطني الحرّ، إلا فكرة وإسماً مستنبطان من حزب الوطنيين الأحرار الذي أسسه شمعون. وما يعنيه ذلك من تكامل رؤيوي، تجلّى في كلام رئيس الجمهورية ميشال عون في مناسبة مئوية لبنان الكبير، والذي يقول فيه:" كل محاولات التحرر من النير العثماني كانت تقابل بالعنف والقتل وإذكاء الفتن الطائفية. إن إرهاب الدولة الذي مارسه العثمانيون على اللبنانيين خصوصاً خلال الحرب العالمية الأولى، أودى بمئات آلاف الضحايا ما بين المجاعة والتجنيد والسخرة"، مشيرًا إلى أنه "مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، وهزيمة العثمانيين ودخول لبنان تحت النفوذ الفرنسي، بدأت مرحلة جديدة من تاريخنا، وصلنا معها إلى لبنان الكبير في العام 1920، ثم الاستقلال".
كلام عون لم يمر على مسامع الأتراك مرور الكرام، إذ سارعت الخارجية التركية إصدار بيان قالت فيه "ندين بأشد العبارات ونرفض كليا التصريحات المبنية على الأحكام المسبقة، والتي لا أساس لها عن الحقبة العثمانية، واتهامه للإمبراطورية العثمانية بممارسة إرهاب الدولة في لبنان(..) تجاهلُ الرئيس عون لما جرى في فترة الاستعمار، التي هي أصل كل مصيبة في يومنا، من خلال تحريف التاريخ عبر الهذيان، ومحاولته تحميل مسؤولية تلك الأمور للإدارة العثمانية، إنما هو تجل مأساوي لشغفه بالخضوع للاستعمار". وأردف البيان "إن هذه المقاربة اللامسؤولة، ليس لها أي وزن في التاريخ من منظور موضوعي، وفي ضمائر شعوب المنطقة، ولن يكون".
وهنا، ثمة جوانب يستمر اللبنانيون في تجاوزها، بإلقاء المسؤوليات على السلطنة العثمانية التي كانت قد انهارت فعلياً في العام 1909، مع خلع السلطان عبد الحميد عن العرش، قبل الحرب العالمية الأولى التي وقعت في العام 1914، بينما المجاعة التي عاشها لبنان والظروف السيئة، كانت نفسها التي عاشتها كل دول المنطقة بما فيها تركيا، التي هزمت في الحرب، وتوزعت أراضيها كمناطق نفوذ بين المنتصرين. وما عاناه لبنان خلال الحرب، كان من صنع أيدي القوميين الأتراك، المتعصبين لقوميتهم وعلى رأسهم جمال باشا السفاح، وغيره من أركان جمعية تركيا الفتاة والإتحاد والترقي. وهناك خلاف جوهري بين الذين كانوا متمسكين بالسلطنة العثمانية والذين كانوا يعتنقون فكرة الدولة القومية التركية.
التاريخ والأقليات
أسوأ الأحكام التي ينزلها التاريخ، هو أنه يخطّ بكتابات المنتصرين، والأسوأ عندما يعيد نفسه، أو تتشابه أحداثه، إذ أن ما حدث منذ 100 سنة يتكرر اليوم. والمعركة على إسقاط السلطنة العثمانية بدأت قبل سنوات كثيرة من اندلاع الحرب، تلك المعركة استخدم فيها العرب، ومختلف القوميات الأخرى ضد السلطنة العثمانية. وفي حينها كل هذه القوميات كانت "أقليات" داخل السلطنة. من عرب، أكراد، أرمن، مسيحيون أرثوذكسيون، يهود، وغيرهم. وبالتالي فإن تحالف الأقليات، أو تقاطع المصالح في ما بين هذه الأقليات، كانت العمود الفقري الأساسي الذي استندت عليه الدول الغربية لضرب السلطنة العثمانية من الداخل، قبل ضربها في الحرب العالمية.
والأسوأ من ذلك، هو أن الاستثمار بهذه الأقليات، كان لغاية محددة، ولفترة مؤقتة، إذ وعد الأرمن والأكراد بدول لم يحصلوا عليها، ووعد العرب بمملكة عربية متحدة، لم يتحقق منها شيء. وهذا منطق غربي قد تكرس في محطات كثيرة.
المنطق المسيحي الذي تجدد وانطبق في حقبات عديدة من تاريخ لبنان، والذي يعتبر أن الكيان خلق لهم ولأجلهم، والآخرون فيه مستلحقون، أو رعايا من الدرجة الثانية، لا تزال ممارستها جلّية إلى اليوم، سواء بالحديث عن التفوق الجيني أو العرقي، أو بادعاء استعادة الحقوق والصلاحيات، وإستعادة القوة المسيحية.
لبنان "الإيراني"
قبل أكثر من مئة سنة، التقى الغرب والروس على ضرب السلطنة العثمانية، واليوم تلتقي أميركا وروسيا على غايات مشابهة تماماً، أولها "حماية إسرائيل"، وما يعنيه هذا المنطق من حماية الأقليات، إذ يطفو الخطاب بشكل لا مثيل له، بعد تهجير شعب سوريا وتمزيق جغرافيتها، وما يأتي معها ليتكامل في لبنان بنظرية التحالف المشرقي، وتوجيه الشكر لروسيا على حمايتها للأقليات في الشرق. والذي يتعزز بتسعير القوميات العرقية أو الطائفية، بدلاً من الوطنية، خصوصاً أن العرب الذين يمثلون الأكثرية في هذه المنطقة بعد سايكس بيكو، يبدون غائبين عن المعادلة، لصالح تنامي قوة إسرائيل، وضعف مصر وانشغال الخليج بأحواله وأهواله، وتمزيق سوريا واضطراب العراق الدائم، وإحراز إيران لتقدم واسع وهائل في المنطقة.
لذلك كله، يبدو لبنان حالياً، بعيداً كل البعد عن محيطه العربي، قريباً أكثر من تنامي العصبيات، ومنضوياً أكثر في المشروع الإيراني. فبلسان مسؤولين إيرانيين، بات لبنان إحدى محافظاتهم.
منير الربيع - المدن