منذ صباح الأحد كان الجنوبيون يعيشون على سجيتهم، فيما هم يسمعون أنباء وشائعات متوالية، عززتها عمليات حرق مفتعلة قامت بها طائرات إسرائيلية.
لحظات الضياع
لكن بعد الظهر كان مختلفاً: أطلق حزب الله صاروخاً مضاداً للدروع استهدف دورية للجيش الإسرائيلي. سارع الإسرائيليون إلى قصف مناطق حرجية على أطراف يارون ويارين ومارون الراس الحدودية. لحظات قلقة في انتظار جلاء الصورة، وشبح تكرار حرب تموز يقلق الكثيرين. لكن استبعاد حصول تصعيد كبير كان يقيناً.
إنها لحظات الضياع بين الاطمئنان والحماس والقلق. قلق انعكس في مختلف المناطق الجنوبية بمشهد سيارات متراصة غادرت في اتجاه بيروت، بينما كان الإسرائيليون يلعبون لعبة حرق الأعصاب: لبنان سيدفع الثمن، ونتنياهو سيخرج بموقف مهم، ليتبين أن ذلك كله كان جزءاً من الدعاية الإسرائيلية الداخلية والانتخابية.
تنفيذ المحتوم
عملياً لم تتغير قواعد الاشتباك بين حزب الله وإسرائيلي حتى الآن، باستثناء الاعتداء الإسرائيلي بطائرتين مسيرتين استهدفتا الضاحية الجنوبية الأسبوع الماضي. ردّ حزب الله على الغارة التي تعرّض لها في سوريا وأدت إلى مقتل عنصرين من مقاتليه. ما يعني أن منطق ضربة في مقابل ضربة، لا يزال يتحكّم بمسار الأوضاع. وكما فعل حزب الله رداً على اغتيال جهاد مغنية عام 2015 من مزارع شبعا حينذاك، واستهدف آلية اسرائيلية، ردّ أمس على استهداف عناصره في سوريا، بعدما قال نصر الله: إذا سقط ضحايا من الحزب سيكون الرد محتوماً.
وعملية حزب الله، التي أطلق عليها اسم شهيديه في سوريا، كانت إشارة واضحة إلى أن الرد محصور بما يجري في سوريا، وليس رداً على عملية الضاحية التي ستستهدف الطائرات المسيرة في مرحلة لاحقة، عندما يرى ذلك ممكناً ومناسباً. لا تزال قواعد الاشتباك على حالها إذاً: ضربة مقابل ضربة، بدون الذهاب إلى معركة واسعة أو مواجهة مفتوحة، لأن الطرفين لا يريدانها.
نتائج متوقعة
بالحفاظ على هذه المعادلة يكون الجميع قد ضمن حقّه العسكري، السياسي، الأمني والمعنوي: إسرائيل ترفع شعار منع حزب الله من الحصول على صواريخ دقيقة، وتنفّذ العمليات اللازمة لذلك، بشكل يوفر عائداً شعبياً وانتخابياً لبنيامين نتنياهو. في المقابل يلتزم حزب الله معادلة قوة الردع والتوازن والرد على ما تعرض له، بشكل يعيد مجدداً تثبيت التزام نصر الله ما يتعهد به، وتعزيز منطق التوازن الردعي والسياسي. بينما لا تكون الضربة موضوع الرد قد أدت إلى سقوط إصابات في صفوف الإسرائيليين. إنها إذاً ضربة متوقعة النتائج.
سياق ما بعد الرد وآلية التعاطي معه لبنانياً واسرائيلياً، واضحان: الالتزام بالاتصالات المباشرة وغير المباشرة التي سبقته. أي أن حزب الله أطلق صاروخاً مضاداً للدروع في اتجاه آليات للجيش الاسرائيلي، فسارع الإسرائيليون إلى استهداف مناطق خالية من السكان في الجنوب، كبعض التلال والأودية. ويسارع الحزب إلى تبني العملية والقول إنه حقق إصابات مباشرة، بينما يسارع الإسرائيليون إلى عقد اجتماعاتهم الأمنية والعسكرية، وسط توتير الأجواء المتعمد في الداخل الإسرائيلي. ولكن سرعة تبني الإسرائيليين ما جرى وسرعة تعاطيهم معه أوضحتا أن الأمور لن تذهب نحو التصعيد، خصوصاً أن الجيش الإسرائيلي أعلن سريعاً أن العملية لم تسجل سقوط إصابات في صفوفه، بينما أشار حزب الله إلى سقوط 4 جرحى. وسريعاً أيضاً أعلن الجيش الإسرائيلي انتهاء العمليات العسكرية.
الدبلوماسية الكثيفة
ترجم هذا التفاهم الضمني تحرك سريع للرئيس سعد الحريري، الذي أجرى اتصالات بوزير الخارجية الأميركي، ومسؤولين فرنسيين ودوليين، للملمة الوضع ومنع التصعيد. وهذا يؤكد الاتصالات التي حصلت طوال الأسبوع الماضي: حزب الله أبلغ الجميع أنه سيردّ، ولكنه لا يريد الحرب. وهذا موقف أبلغ إلى الدول المعنية والمؤثرة، بينما ردت إسرائيل بأنها ستردّ على أي ضربة بشكل عنيف وموسع، ولبنان هو الذي سيدفع الثمن.
استمرت الاتصالات للبحث عن كيفية سحب فتيل التوتر، بينما تحدث حزب الله عن أن الإسرائيليين يحاولون تقديم أهداف سهلة للحزب لاستهدافها، لأن تل أبيب تريد طي الصفحة سريعاً. لكن الحزب رفض ذلك وتمسك بمبدأ اختيار التوقيت والهدف المناسبين. اختار حزب الله هدفه وصوب عليه، في عملية أكدت أنه متمسك بمعادلة توازن الردع، وضربة مقابل ضربة. بينما تكثّفت التحركات السياسية والديبلوماسية سريعاً، بين مصر وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، للتشديد على مبدأ التهدئة وعدم التصعيد. وبذلك يكون الجميع قد حفظ حقه وموقعه، في انتظار جولة جديدة من المفاوضات، سياسياً أو نارياً.
منير الربيع - المدن