لبنان الوطن يساوي صفراً في الحسابات الإقليمية الإيرانية. هو صفر شعب وصفر عمران وصفر استقلال وصفر تعريف اجتماعي. لبنان الصفر ذاته هو كلّ تصنيفي، وكل محوري وكلّ "هوياتي" وكلّ وظيفي وكلّ تعريفي مقاوماتي في حساب الاستراتيجية الشاملة التي جعلت إيران مشروعاً تدخلياً يمتد نفوذه من طهران إلى جنوب لبنان، مروراً بكل العواصم العربية التي ذكرها أكثر من مسؤول إيراني.
لبنان الوطن هذا، الذي هو صفر وكلّ في الجملة ذاتها وفي الواقع عينه، عاد ساحة مفتوحة من دون مواربة، بعد أن استهدف العدو الصهيوني الضاحية الجنوبية لبيروت بضربة جوية "مسيَّرة"، وبعد أن استجاب حزب الله للتحدي الجوي بإشهار استعداده الجوي، فكشف عن قدراته التي يمتلكها في هذا المضمار.
هجومان مضادان
ما أقدم عليه سلاح الجو المعادي في لبنان، سبقه تمهيد ناري وسياسي في سوريا وفي العراق، وهذا مما هو معلوم، وقد ينطوي الأمر على ما هو غير معلوم من هجمات استخباراتية ظلَّت طي الكتمان لدواع وأسباب تتعلق بسياسات المستهدِف، مثلما ترتبط بسياسات وأسباب المستهدّفين. إذن، لم يكن الانتقال إلى الهجوم على الأرض اللبنانية، وضد "أهداف" تختص بحزب الله أمراً مفاجئاً. لقد سبق للساسة الأعداء أن أعلنوا حربهم الاستباقية ضد تمُّدد النفوذ الإيراني، وبناءً على ذلك جرت الأفعال الحربية مجرى الهجوم المضاد ضد النفوذ المشار إليه، لأسباب سياسية واستراتيجية لا تختصرها عبارة "دعم الإرهاب وزعزعة استقرار المنطقة"، التي ترددها السياسة الأميركية، ولا تلخصها عبارة "توجيه ضربات وقائية ضد التهديد المحتمل للأمن الإسرائيلي"، التي يكررها القادة والمسؤولون داخل فلسطين المحتلة. ما هو خافٍ في هذا المجال، هو سياسة إعادة ضبط وتفعيل الدور الإيراني كلاعب إقليمي، بعد أن استنفدت سياسة إطلاق اليد لنفوذه غاياتها الكبرى، وربما بعد أن بالغ السياسي الإيراني في الاستفادة من غضّ النظر الدولي الذي أتيح عليه، وفي طليعة "الدولي" تأتي السياسة الأميركية التي تشن هجومها "المالي" المضاد على الجمهورية الإسلامية الإيرانية. نحن إذن أمام هجومين مضادين، أو استدراكيين تتولاهما الولايات المتحدة الأميركية بوسائلها المتعددة، وتسهم فيه إسرائيل فيها بوسيلتها العسكرية وما أمكن من اختراقات ديبلوماسية تجميلية.
تطوير الهجوم
رغم النبرة السياسية العالية، يبدو أن تطوير إيران لهجومها "النفوذي" بات مقيداً بقيود السماح الدولية، مثلما صار خاضعاً لقيود الداخل الإيراني من جهة، ولقيود الوطنيات التي اجتاحتها السياسات الاستقطابية، ونفثت فيها المذهبيات سمومها، وعادت العصبيات القبْلية لتقود حيويتها الهوياتية المتمحورة حول انغلاقها.. عنوان القيود ليس تعميمياً، فالأمر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعرفة الوضع الإيراني المثقل بمعضلاته، والدول التي صارت مسرحاً للعمليات المتضادة لها خصوصياتها التي توجب معاينتها، من اليمن إلى العراق فسوريا ولبنان، حيث صورة "الاستتباع" واحدة، لكن خطوطها وقسماتها وخلفيتها تختلف من بلد إلى آخر.
ضمن القيود العامة هذه، يتحرك "محور المقاومة"، ومن خارج هذه القيود والضوابط، يتحرك الأميركي والإسرائيلي مدفوعاً بتقدير ضعف قدرات خصمه استراتيجياً، واطمئنانه إلى تفوق قدراته على هذا الصعيد. تحت سقف القيود يتبادل الخصوم وسائل سياسية هادفة، فمن جهة الأميركي تأتي رسالة إلى الإيراني أن نظامه غير مستهدف بالإطاحة أو الاستبدال، وأن المقصود بالحصار سلوكيات هذا النظام، أي أن التعديل المطلوب لا يتعدى "تقليم الأظافر"، تمهيداً لإعادة إدراج النظام ضمن منظومة "الهدوء الإقليمي" العام. بكلام آخر، هذه معركة تحسين شروط التحاق يخوضها الإيراني محاولاً رفع سقف شروط إعادة انتسابه إلى السياق الدولي العام، في الوقت الذي يبدي فيه "واهب" الأدوار تشدداً إضافياً. يندرج لبنان الصفر ضمن لعبة تحسين الشروط التي يتولى إدارتها "حزب الله"، وهذه المرّة من دون تورية، فيطلب من "الدولة" الحريصة على أمنها الذهاب إلى الخارج لطلب ضبط إسرائيل إذا كان الأمن مطلباً "دولتياً" عزيزاً.
قاعدة غير آمنة
الأمن الذي يطلبه حزب الله للبنان، هو في الوقت ذاته، بل قبل الوقت، مطلب تأمين القاعدة الخلفية المهمة لدى حزب الله، ولدى إيران ايضاً. لقد وفَّر الوضع اللبناني بتعقيداته وانقساماته منبراً تُطلق منه التهديدات والرسائل التي لا يمكن إطلاقها من إيران، أو من بلاد عربية أخرى، وشكَّل لبنان أيضاً قاعدة تدريب وتسليح وتمويل واتصال – بالعديد من الحركات "الجهادية" من فلسطين إلى البحرين، التي تقول قول إيران وتعلن انتسابها إلى محورها، كذلك ما زال لبنان، وبواسطة حزب الله، يشكل احتياطاً أساسياً في رفد ساحات التدخل الإيرانية بالقوى والخبرات البشرية، ويشكل جسماً قتالياً جاهزاً لتحريك خيوط اللعبة السياسية إذا ما اقتضت الضرورات، ودائماً من بوابة الصراع مع العدو الإسرائيلي، وتحت يافطة اللبنانية والفلسطينية والقومية والإسلامية.
تأسيساً على ما تقدم، يشكل الهجوم المعادي الأخير رسالة تقول: لقد اتسع إطار الهجوم المضاد الأميركي الإسرائيلي ليضم القاعدة الآمنة الخلفية في لبنان، وأن تعكير صفو الأمن من قبل إيران في الخليج، سيقابله تعكير على كافة الجبهات.
الثلاثية مجدداً
تحريك مفعول الثلاثية: جيش وشعب ومقاومة، وفي هذه اللحظة الخطيرة من التصعيد المتبادل في المنطقة عموماً، يقتضي تفعيل تراتبية الثلاثية هذه، طالما أنه لا يمكن تبديلها حتى الآن. التراتبية هي تراتبية أدوار، والمقترح أن يكون الأمر دولة ودولة ودولة الآن، أي أن يتقدم الدور المؤسساتي، وأن يتراجع خطاب الإنذارات والتلويح بتغيير قواعد الاشتباك، وأن يطول التدقيق في تقدير الموقف من كل جوانب معطياته. إخراج لبنان الآن من عين عاصفة الاستهداف ممكن، وهذا منوط بحزب الله الذي عليه أن يدرك أن لبنان لا يستطيع أن يتحمل كل أعباء السياسة الإيرانية، وأن اللبنانيين الحريصين على الدفاع عن أرضهم وحرياتهم ومستقبلهم، يفضلون سياسة تجنب "دفع أي كلفة حربية مجانية". باختصار، سياسة عدم جرّ لبنان إلى حرب، هي سياسة اللبنانيين، فإذا فرض العدو الحرب ممراً وحيداً، نهض بها اللبنانيون مجتمعين محصنين بموقفهم الدفاعي الأخلاقي، ومسلحين بوحدتهم الوطنية، وبرؤيتهم المشتركة لما يجب أن يكون عليه لبنان.
أحمد جابر - المدن