الحديث عن حرب إسرائيلية وشيكة الوقوع، في الجنوب، يختلف عنه في باقي المناطق. هنا، للكلام طعم الصبر والمكابرة. أما هناك، فلا يعدو كونه أكثر من تخمينات وتكهنات وتحليلات.
"أيمتى الحرب؟"
يدرك أهل الجنوب أنهم معنيون بهذه الحرب، أكثر من اللبنانيين كلهم، سواء في القتل والدمار والتهجير، أم في الصمود والمواجهة والتحدي. فهم أهل المقاومة وبيئتها وحاضنتها، ومنهم ينحدر العدد الأكبر من شهدائها وجرحاها ومقاوميها. وهم على يقين أنه إذا قرر "حزب الله" أن يرد على الخرق الإسرائيلي بالطائرتين المسيّرتين، اللتين اخترقتا سماء الضاحية الجنوبية لبيروت، "من لبنان"، كما قال أمينه العام السيد حسن نصرالله، فسيكون الرد، بالتأكيد، من الجنوب.
وعليه، لا يجتمع جنوبيان اثنان، إلا والحديث عن الحرب المتوقعة، ثالثهما، فلا تكاد تغيب سيرة الحرب عن أي جلسة، أو سهرة، أو لقاء، حتى في الشوارع والأسواق وسيارات الأجرة، السؤال الوحيد المتكرر، هو: "أيمتى الحرب؟".
رغم هذا، يبدو موعد الحرب، لدى أهل الجنوب، محسوماً، فلن يكون قبل مهرجان 31 آب، ذكرى اختفاء السيد موسى الصدر ورفيقيه، كي لا يزعل جمهور حركة "أمل". كذلك، سوف يتم تأجيله إلى ما بعد انتهاء احتفالية عاشوراء. وهذا يعني، أن "حزب الله" سوف يظل عاكفاً على دراسة الرد، حتى منتصف أيلول.
في السر والعلن
إلا أن حديث الجنوبيين عن الحرب وأهوالها، حديثان. الأول للإعلام والإعلان. وهو يتماهى مع خطاب نصرالله، من ناحية الإيمان بقدرة المقاومة على ردع العدو، والثقة بتحقيق انتصار إلهي جديد. أما الثاني، فليس للنشر، ويتم تداوله سراً. وهو يعكس حجم القلق الإنساني، الذي تعيشه هذه الفئة من الناس، التي خبرت في حروب مدمّرة سابقة، فقدانها للحد الأدنى من مقوّمات الصمود، على كل الأصعدة.
في أعقاب عدوان تموز في العام 2006، نُقل عن أحد مراسلي تلفزيون "المنار" التابع لـ"حزب الله"، أنه كان يجري مقابلة مع مواطن جنوبيّ، من أمام منزله المدمّر، وبعد أن استفاض الرجل بالإشادة ببطولات المقاومة ونصرها المؤزّر على العدو، طلب من المراسل أن يطفئ الكاميرا، ليتكلم براحته. وبعدما تأكد من تنفيذ طلبه، انهار بالبكاء والشكوى وانهال بالشتائم على المقاومة وسيّدها.
هذه الحكاية، وحكايات كثيرة مثلها- تم التعتيم عليها- تختصر بكثير من الواقعية، موقف الجنوبيين من الحروب التي يُجرّون إليها بالقوة، من حين إلى آخر.
الاعتصام بالطائفة
لكن في المقابل، يجد الجنوبيّ نفسه، أو الجنوبيّ الشيعي بالتحديد، متورطاً بإرادته، بقبول الحروب، منساقاً رغماً عنه إلى تقبّل تبعاتها، مهما كانت التكلفة، طالما أنه يشعر، أو جعلوه يشعر، على مدى عقود من الحقن المذهبي والتصعيد الطقوسي، أنه مستهدف بوجوده وكيانه وعقيدته، من الداخل قبل الخارج. وأن خروجه عن إجماع طائفته، يلغيه هو أولاً، ومن ثم يوهن الجماعة ويضعفها، لذلك تمسّك بفائض القوة، الذي منحه إياه سلاح "حزب الله"، واعتصم بحبل طائفته، واستعلى على الدولة ومؤسساتها ومواطنيها.
هذه الازدواجية في مقاربة الحرب، تحكم الجو العام في كل مناطق الجنوب. فعلى مقربة من بدء موسم عاشوراء، ذكرى ثورة ثالث أئمة الشيعة الإمامية الحسين بن علي، على الحكم الأموي، يرتفع منسوب العاطفة الثورية، حزبياً ومذهبياً، وتحضر شعارات عاشوراء الكلاسيكية، مثل: "انتصار الدم على السيف"، "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء"، "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، "كُتب عليكم الجهاد كما كُتب على الذين من قبلكم"، ممزوجة بشعارات النصر المعنوي في الحرب المقبلة، مثل: "وطني أراك كما الحسين شهيداً مظلوماً"، أو بمقتطفات من أقوال نصر الله في خطابه الأخير: "على إجر ونص" و"روحوا انضبّوا".
ما بعد الشعارات
أما شعبياً، فالقلق والخوف يغلبان كل الشعارات، سواء الحسينية منها أم الحزبية، فأهل الجنوب، يعتقدون أن حزبهم هذه المرة، لكن يكون في مقدوره إدارة الحرب المقبلة، كما يعدهم، حتى لو كان "الرد مدروساً"، فهناك هوّة كبيرة ما بين تقنياته واستعداداته وتقنيات العدو واستعداداته، كما أن العدو لا يشن أي حرب قبل الحصول على إجماع حكومي وسياسي، وموافقة المعارضة قبل السلطة، بينما يفتقد "حزب الله" هذا الإجماع، إضافة إلى أن نصف الشعب اللبناني على الأقل، يعتبر الطائفة الشيعية، موالية لإيران، ولديها قناعات وسلوكيات مغايرة للنسيج الوطني، وبالتالي سوف لن يحظى المهجرون بسبب الحرب ببيئة تستضيفهم، وسوف يتحول الجنوب إلى مقبرة جماعية.
حسين بيضون - المدن