كاد التاريخ يكرر نفسه مع الرؤساء الفرنسيين في لبنان. كادت تجربة الرئيس الراحل، فرانسوا ميتران، مع قمة "مجموعة الدول السبع" تتكرر مع الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون. فقد كان ميتران يستضيف نظرائه السبع في اجتماع مجموعة الدول الصناعية الكبرى من 4 إلى 6 حزيران/يونيو 1982 في قصر فرساي، حين باشرت إسرائيل اجتياحها للبنان بهدف ضرب "منظمة التحرير الفلسطينية" وإنهاء وجودها في بيروت. هكذا، خطف موضوع الاجتياح الأضواء وفرض نفسه على الأجندة الدولية، مقللاً من وهج قمةٍ كان ميتران يعوّل عليها لبحث مسائل اقتصادية ملحة آنذاك.
تفصيل صغير
لعل ماكرون راح يستذكر تلك الوقائع المخيّبة بعدما افتتح قمة "مجموعة الدول السبع" في مدينة بياتريس الفرنسية يوم السبت 24 آب 2019، والتي اختتمت يوم الاثنين 26 آب/أغسطس. هو الذي أراد من هذه القمة التصدي لملفات دولية ساخنة، أبرزها الملف الإيراني، كان سيشعر باستياء شديد لو أدى الاعتداء الإسرائيلي في الضاحية الجنوبية لبيروت ليل السبت - الأحد الماضي (والذي هو عمل عدائي محدود مقارنةً بالاجتياح)، إلى إشعال حرب فوراً. لحسن حظه إذاً أن حزب الله تريّث. فتابع ماكرون اجتماعاته مع نظرائه مرتاح البال، مركّزاً جهده وطاقته على الأولويات التي وضعها على أجندته الدبلوماسية. لم يضيّع وقته بتفصيلٍ صغيرٍ (حتى الآن)، ولم يطلق أي موقف رسمي بشأنه. بدا ذلك وكأنه عدم اكتراث لما يتعرض له لبنان "الغالي على قلب فرنسا"، بحسب المقولة العاطفية التي غالباً ما تلازم خطابات المسؤولين الفرنسيين.
إلا أن ماكرون كان منشغلاً بالوساطة التي تقودها بلاده بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران من أجل محاولة التوصل لاتفاق جديد يشمل البرنامج النووي وبرنامج الصواريخ البالستية والسياسة التوسعية الإقليمية لطهران. وفيما كان منسوب التوتر يرتفع على الجبهة اللبنانية بسبب الاعتداء الإسرائيلي وتلويح حزب الله بخيار الرد، كان الرئيس الفرنسي يعلن عن إنجاز دبلوماسي يُسجل له، ويتمثل في تعبيده الطريق أمام اجتماع قمة بين الرئيسين الأميركي والإيراني، دونالد ترامب وحسن روحاني، في الأسابيع المقبلة. هذا اللقاء قد يُعقد من دون تسجيل أي نجاح. لكن الوساطة الفرنسية تحقق على ما يبدو تقدماً إيجابياً وتساهم أقله في كسب الوقت، أي في تأخير انفجار محتمل بين الأميركيين والإيرانيين. وتبشر بإمكانية الانفراج ثم التوصل إلى تسوية واتفاق جديد شامل. وهذا سينعكس بحد ذاته على الوضع في لبنان.
"سيدر" والضاحية
بعد يوم من اختتام قمة "مجموعة الدول السبع"، عاد ماكرون إلى باريس ليُلقي، في اليوم التالي (27 آب /أغسطس)، الخطاب الرئاسي التقليدي أمام مؤتمر السفراء، والذي يحدد فيه توجهات السياسة الخارجية الفرنسية ومواقفها على الساحة الدولية. على غير عادة، لم يتضمن خطاب ماكرون أي إشارة إلى لبنان. لصمته هذا أسباب تتعلق خصوصاً بالاستياء الفرنسي من أداء الحكام اللبنانيين ومن تعامل هؤلاء بشكل غير كفوء وغير جدي مع المخاطر الاقتصادية المحدقة بالبلاد. والبعض يتحدث عن غضب فرنسي من هؤلاء الحكام الذين يكتفون بمحاربة صُوَرِيّة للفساد بدلاً من مكافحة جذرية وجدية له، وهو شرط أساسي من شروط "مؤتمر سيدر".
لكن في ما يتعلق باعتداء الضاحية الجنوبية، فهناك أكثر من تفسير لما يشبه صمت الدبلوماسية الفرنسية حياله، واكتفائها بالتحرك من وراء الكواليس لمحاولة تجنب وقوع أزمة أو حرب، واقتصار موقفها العلني على كلام مقتضب للمندوبة الفرنسية المساعدة في الأمم المتحدة، آن غيغن، أوردته يوم 27 آب/أغسطس، في ختام مداخلة لها خلال جلسة لمجلس الأمن مخصصة لبحث التطورات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعبّرت فيه عن قلق بلادها حيال تطورات لبنان، متمنيةً امتناع الجميع عن التصعيد وعن مخالفة قرارات مجلس الأمن وانتهاك "الخط الأزرق".
فإذا كان اللبنانيون يلومونها على عدم إدانتها الواضحة (إلى الآن) للاعتداء الإسرائيلي، فإن لصمتها (المؤقت) معنى يتمثل في أنها تريد من لبنان وحزب الله الالتزام بأقسى درجات ضبط النفس وعدم الرد بالمثل على انتهاك إسرائيل للقرار 1701، والاكتفاء برفع شكوى أمام مجلس الأمن، تفادياً لخطر الانزلاق نحو صراع مسلح لا يحتمله وضع لبنان الاقتصادي. كذلك، لا تريد فرنسا أن يقدّم حزب الله أي ذريعة للإسرائيليين والأميركيين، يمكن أن يستخدمونها لنسف الجهود الفرنسية في مجلس الأمن، والرامية إلى إيجاد صيغة توافقية بشأن قرار التجديد لقوات "اليونيفيل" في جنوب لبنان. وقد تكون هذه المسألة واحدة من أهم دوافع تحرك الدبلوماسية الفرنسية بصمت.
الكواليس الدبلوماسية
على أي حال، المشكلة لا تزال تحت السيطرة الآن. والحرب لم تبدأ بعد. وطالما أنه من الممكن احتواء المشكلة في الكواليس الدبلوماسية، فلماذا قرع الطبول والعزف على المزامير؟ وعادةً، تبدأ الوساطات الرسمية والعلنية بعد اندلاع الحروب، لمحاولة التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار وعدم تدهور الأوضاع الميدانية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الأدوار الحاسمة التي لعبها الفرنسيون في شأن الصراع الإسرائيلي ـ اللبناني، أو الإسرائيلي ـ الفلسطيني أو الإسرائيلي ـ السوري على أرض لبنان سابقاً، نادرة جداً. يسجل لهم التاريخ نجاحهم الدبلوماسي في إبرام "تفاهم نيسان" الذي على أساسه توقف العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1996. باستثناء هذا الإنجاز، لم يكن للفرنسيين دور رائد في الوساطات خلال حروب إسرائيل ضد لبنان. كان الأميركيون، من موقعهم المؤثر على حلفائهم ووكالائهم الإسرائيليين، الطرف الأقدر على التوسط لوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية على أرض لبنان، مع أنهم كانوا وسيطاً منحازاً.
بمعنى آخر، يجب عدم تجاهل أن محدودية تأثير فرنسا على إسرائيل، وكذلك على حزب الله من الجهة اللبنانية، تفسر بدورها التعامل الفرنسي الحذر مع الحدث الإسرائيلي ـ اللبناني المستجد.
نبيل الخوري - المدن