يقال اليوم إن هناك دعوة "لمقاومة عربية شاملة" ضد إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. وأطلقت الدعوة بقايا حركات وأحزاب يسارية وشيوعية "تناضل" في بيروت من أجل بقاء بعض قياداتها وأرشيفها، ولا تملك القدرة على الوقوف في وجه أحزاب السلطة، فما بالك بالوقوف ضد إسرائيل وأميركا؟! أما حمل الدعوة وأصحابها على محمل الجد، فيستدعي الحديث في أمور كثيرة.
هوية المقاومين
الدعوة إلى المقاومة تعني التوجه إلى أنظمة أو شعوب. لا نحتاج إلى مجهود فكري لنعرف أن نظامي مصر والأردن خارج اللعبة، فهما يعترفان علناً بإسرائيل ويعقدان معها اتفاق سلام. أما النظام البعثي - الأسدي في سوريا، فمنع ويمنع إطلاق رصاصة واحدة على الإحتلال في الجولان. النظام العراقي غارق في أزماته السياسية والأمنية. الأنظمة الخليجية خارج المعادلة. أما أنظمة تونس، الجزائر، ليبيا، والمغرب، فبعيدة كل البعد عن الصراع مع إسرائيل. تبقى، إذاَ، أنظمة الصومال وجيبوتي وجزر القمر. أما النظام اللبناني فلا يملك قرار الحرب والسلم. وعليه، خاسر هو الرهان على الأنظمة.
الشعوب العربية، في المقابل، تقمعها أنظمتها المتسلطة، وهي بالكاد تستطيع رفع صوتها بالإحتجاج على قضايا سياسية أو اقتصادية داخلية. الشعب اللبناني تحديداً، وبمساعدة الأطراف التي تدعو إلى المقاومة الشاملة، عجز عن الضغط على نظامه لحل أزمة النفايات، على الرغم من انفراد لبنان، بين الأنظمة والشعوب، بوجود "المقاومة" فيه. لكن هذه "المقاومة" تحولت أخيراً، من رفض الاحتلال وقتاله الذي يفرضه الاحتلال نفسه، إلى مؤسسة بات الدفاع عنها، أي عن مؤسسة حزب الله، هو شاغل الدولة اللبنانية والشعب اللبناني... وبعيداً من التفاصيل، ليس قرار هذه "المقاومة" شأناً لبنانياً داخلياً، بل إيرانياً خالصاً، باعتراف الأمين العام لحزب الله نفسه، إذ قال: إن قرار حربنا وسلمنا بيد الولي الفقيه.
إزالة إسرائيل من الوجود
اتّضح منذ العام 1948 أن وجود إسرائيل ليس أمراً عابراً أو طارئاً، بل هو حدث مبرمَج، له أبعاده وخلفياته ومستقبله. وليس دعم الولايات المتحدة وروسيا والدول الأوروبية لإسرائيل، سوى تأكيد على أن وجودها لا يرتبط بشد الحبال الذي يحصل في الحروب والمعارك. فإسرائيل بالنسبة للدول "الكبرى" دولة تتمتع حق الوجود. أما القضية الفلسطينية وتقسيم فلسطين وتشتيت شعبها، فليست سوى آثار جانبية للحربين العالميتين الأولى والثانية، واللتين جرى أثناءهما تقسيم أراضٍ وتشتيت شعوب كثيرة. والدول الكبرى التي اتفقت ضمنياً في إطار صراعها وحروبها، على طي صفحة ما بعد الحرب الثانية، وعلى عدم حصول حرب عالمية جديدة، تؤدي الى دمارها أو دمار مشاريعها في العالم. أما الصراع بين هذه الدول فهو صراع محدود ترسمه بنفسها، ولا يتضرر منه سوى الأتباع من دول العالم الثالث، وعلى رأسها الدول العربية.
وهذا يعني أن فكرة إزالة إسرائيل من الوجود، في الظروف الدولية الحالية، ضرب من الخيال. رغم تناقض هذا الواقع مع أحلامنا بتحرير فلسطين.
الاعتماد على إيران
تنظر بعض الأنظمة والشعوب والأحزاب العربية إلى إيران بوصفها الداعم الأول، وربما الأوحد للقضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. والأسوأ من ذلك أن هؤلاء يعتقدون أن إيران تريد إزالة إسرائيل من الوجود.
تصح هذه النظرة إلى إيران في الحسابات العاطفية فقط. أما في الحسابات السياسية والاقتصادية الواقعية، فإن إيران تطرح نفسها اليوم لاعباً إقليمياً ودولياً، وتبحث لنفسها عن دور أوسع بين الدول الكبرى. فهي تفاوض الولايات المتحدة، وتؤيد روسيا، طامحةً إلى الاعتراف بها كذراع، وليس كحليف، في المنطقة. وتواصُلُ إيران مع أميركا وروسيا، يعني حكماً استبعاد فكرة إزالة إسرائيل. حتى إذا وقفت إيران في وجه أميركا، فإن روسيا حليفة إسرائيل، لن ترضى بأن تشن إيران حرباً هدفها إزالة إسرائيل من الوجود. وفي حال الحرب، ستقف روسيا أمام خيارين: إما دعم إيران، أو دعم إسرائيل. والخيار الإسرائيلي هو الأنسب روسياً. وهذا يعني أن الاعتماد على إيران، والتصديق بأنها تريد إزالة إسرائيل، ضرب من الوهم الخالص
ما الحل؟
وقف اللبنانيون وبعض العرب ضد الإحتلال الإسرائيلي للبنان. واستشهد كثيرون في لبنان وفلسطين على درب تحرير الأرض. لكن رغم صدق النوايا، فأن ما حققه المقاومون لم يستطع الخروج عن حال الانتظام الدولي وصراعات الأقطاب الدولية، بقيادة الاتحاد السوفياتي الزائل والولايات المتحدة. أما انتصار الأحزاب الشيوعية واليسارية في بعض البلدان، فكان بدعم سوفياتي ضد المحور الأميركي، وليس بدعم سوفياتي ضد إسرائيل. والعودة إلى التاريخ تبين أن الدعم السوفياتي كان للأنظمة، وليس لحركات المقاومة الساعية إلى التحرير. فالسوفيات لم يسمحوا بإزالة إسرائيل، مع أن الفرصة كانت متاحة، والتعبئة الجماهيرية قائمة، لا سيما أيام الموجة العربية الناصرية في ذروتها. ولم يسمح السوفيات بإسقاط الأنظمة التي كانت تابعة لهم. والأنظمة لم تسمح بدورها بإسقاط ما كان يُسمى في لبنان "اليمين الإنعزالي" أثناء الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990). فهل نسي اليسار اللبناني كيف مَنَع النظام السوري سقوط "اليمين المسيحي"، وسيطرة اليسار على معظم المناطق اللبنانية؟ فإسرائيل كدولة، مرحّب بها عالمياً أكثر من الدول العربية الجاهزة دوماً للتقسيم تحت مبضع مصالح الدول الكبرى.
فَهم هذا الواقع كفيل بالكفّ عن هلوسات بإزالة إسرائيل من الوجود، ما لم يتغيّر هذا الواقع.
وحتى يحين تغييره وقلب موازين القوى وإمتلاك القدرة على تغيير مجرى الحروب العالمية وليس المعارك فقط، لا بد من التوقف عن خداع الجماهير بشعارات رنانة، ولا بد من التوجه نحو رفع مستوى ثقافة الناس، والاهتمام بمستقبلها العلمي والصناعي والزراعي لتصبح قادرة على الإنتاج، وليس على الإستهلاك فقط، ولتصبح قادرة على الصمود والمواجهة بصورة حقيقية، وليس على نحو هوامي يقتصر على شعارات محكومة بمشاريع الخارج وأجنداته.
فأي مقاومة هي هذه التي تريد إزالة إسرائيل من الوجود، وهي غير قادرة على إزالة مطمر نفايات يتسبب بالسرطان للمقاومين وأهلهم؟ وأي مقاومة عربية شاملة هي تلك التي ينقسم أهلها وأقطابها بين سنّة وشيعة وموارنة وأرثوذوكس وكاثوليك... أو بين زعيم وآخر ومنطقة وأخرى؟
خضر حسان - المدن