تناول "الموقف هذا النهار" يوم الجمعة الماضي النظام السياسي الذي يُرجّح أن تعتمده سوريا بعد انتهاء الحرب فيها، والتنافس بين حلفائها على النفوذ داخلها وبينهم وبين أعدائهم وأخصامهم ومنافسيهم الإقليميّين والدوليّين على النفوذ في المنطقة، كما بعد إرساء هؤلاء كلّهم أو الأكثر فاعليّة من بينهم النظام الإقليمي الجديد، كي يحلّ مكان نظام "سايكس - بيكو" الذي عمّر قرابة مئة سنة، وبدأ انهياره قبل "سطوع شمس الربيع العربي". هذا النظام المستقبلي سيكون فيديراليّاً. وتساءل كاتبه في نهايته ماذا تكون انعكاساته على لبنان الذي تبنّى النظام الذي نصّ عليه اتفاق الطائف عام 1989، لكنّه امتنع عن تطبيقه بنصّه وروحه فصار دولة بلا نظام فعلي تحكمه الطوائف والمذاهب والأحزاب والزعامات بنزاعاتها وطموحاتها، وبشعوب عدّة متناحرة ذات ولاءات خارجيّة إقليميّة ودوليّة تحمل أجندات مُتناقضة، لا مكان فيها لمصلحة لبنان الدولة والكيان والوطن كما لا وجود فيها للمواطن.
هل من جواب عن هذا التساؤل؟
لا جواب حاسماً عنه حتّى الآن على الأقل. لذلك قد يكون مفيداً الحديث عن مواقف الشعوب اللبنانيّة من الفيديراليّة نظاماً لبلادها. وفي هذا المجال يمكن الإشارة من البداية إلى أن الغالبيّة في أحدها حلمت كثيراً بالفيديراليّة قبل حروب 1975 – 1990 بعدما لمست أن حكمها للدولة يضيق بسبب الضمور الديموغرافي، وشعور الشعوب الأخرى بحرمانها المشاركة الفعليّة أو بالأحرى المُتساوية في السلطة. ويمكن الإشارة أيضاً إلى أن الشعوب الأخرى رفضت الفيديراليّة واعتبرتها، في ظل الدعم الإقليمي للشعب المُشار إليه أعلاه والمُعادي لها إمّا تقسيماً وإمّا وسيلة لاستعادة السيطرة على الدولة. لكن ما يمكن الإشارة إليه ثالثاً هنا هو أن الدولة كانت قبل الحرب كونفيديراليّة أو فيديراليّة طوائف ومذاهب لا دولة مركزيّة فعليّة واحدة، وبقيت بعدهما كونفيديراليّة أو فيديراليّة ولكن بنسب سلطويّة مختلفة أو مُعدّلة عن السابق. وساهم في ذلك عدم فتح باب الدولة المدنيّة التدريجيّة التي أرادها "الطائف" لاعتبارات متنوّعة. لكن الجديد في الصيغة "المُجدّدة"، والتجديد لا يعني الجودة، أمران. الأوّل أن اللبنانيّين كانوا شعبين مسيحي ومسلم، فصار المسلم ثلاثة شعوب وبقي المسيحي واحداً رغم انقساماته الداخليّة التي فرضت استمرار وحدته ومعها ضموره الديموغرافي. أمّا الثاني فهو أن الشعب الشيعي حلّ مكان المسيحيّين في الريادة السلطويّة اللبنانيّة. ويعني ذلك في اختصار أن الانقسام لا يزال سمة "العيش غير المُشترك" في لبنان خلافاً للادّعاءات والأحلام والتمنّيات. لكن التقسيم الجغرافي الذي ربّما لا يزال حلماً عند البعض فمستحيل، إلّا إذا قضى النظام الإقليمي عندما يتّفقون عليه بإلحاق مناطق لبنانيّة بدولة جارة باعتبار أنّ الجارة الثانية عدوّة ولم يعد ممكناً ضم أي جزء في لبنان إليها رغم قوّتها وذلك بتوافق شعوبه كلّها. ويعني أيضاً أن الفيديراليّة الجغرافيّة السياسيّة في سوريا ستكون في لبنان إذا اعتمدت سياسيّة فقط، قد ترافقها لامركزيّة إداريّة موسّعة تأخذ في الاعتبار التجمّعات الكبيرة الطائفيّة والمذهبيّة. ويعني ثالثاً أن الفيديراليّة اللبنانيّة ستكون تحت نفوذ "الشعب" الأقوى وهو الآن الشيعة، وربّما تكون مستقبلاً أي بعد سنوات طويلة تحت نفوذ الشعب السنّي إذا ضَمُر نفوذ الأوّل لسبب أو لآخر. علماً أيضاً أن الاثنين قد يُمارسان نفوذاً مُشتركاً على الدولة الأمر الذي يُفقد الفيديراليّة ما أمله منها دائماً المسيحيّون. في أي حال قد تؤدّي شكليّة الفيديراليّة اللبنانيّة واختلافاتها عن الفيديراليّة الفعليّة، التي تثبت وحدة الدولة شعبيّاً وجغرافيّاً واستقلالاً ونظاماً ومساواة في الحقوق، إلى صيغة فعليّة مختلفة يخشاها اللبنانيّون حاليّاً وتحديداً ربّما المسيحيّون وهي صيغة المثالثة. إذ أنّها تخفّض حصّة المسيحيّين من النصف في الدولة في مناصب الفئة الأولى ومنصب رئاسة الجمهوريّة إلى الثلث. وهذا الخفض المُنسجم أكثر ربّما مع حجمهم الديموغرافي رغم عدم اعترافهم بذلك سيبقي صلاحيات الرئاسة الأولى على "محدوديّتها" بعد الطائف، بل ربّما يدفع البعض إلى المطالبة بأخذها منهم وإسناد رئاسة أخرى لهم. وفي كل الأحوال إن صيغة المثالثة سيّئة بمقدار صيغة الفيديراليّة أو الكونفيديراليّة اللّتين عاشهما اللبنانيّون في حين ظنّوا إنّهم عاشوا وحدة وطنيّة قبل الحرب ثمّ استعادوها بعد 16 سنة حرباً. ذلك أنّها تُكرّس تقسيم اللبنانيّين وتمنع تحوّلهم شعباً واحداً رغم أنّهم فعلاً كذلك، وتسمح باستمرار ضعف المسيحيّين في البلاد، وفي النهاية بخروجهم من صيغة حكامها ولاحقاً منها. أمّا المسلمون فيستطيعون أن يعيشوا داخلها أحياناً مُنقسمين وأحياناً موحّدين تبعاً لموازين القوى في الداخل كما في الإقليم. لهذا السبب على اللبنانيّين كلّهم وفي مقدّمهم المسيحيّون أن يبحثوا عن صيغة وطنيّة تُؤسِّس دولة لشعبها وتحوّل أفراده مواطنين ولاؤهم لها وليس للطوائف والأحزاب والمذاهب والمصالح. ولا يعني ذلك إنكاراً للأديان ومذاهبها ودعوة إلى تفضيل الدولة عليها. فالانتماء إليها هو في نهاية الأمر إنتماء للّه الواحد عند كل الأديان التوحيديّة الذي اعتبره كل منها أو بعض من كل منها له وحده، فقسّموه وتحاربوا باسمه. وهو لم يدعُ يوماً إلى ذلك. والشرك في الولاء للدولة الوطنية هو مثل الشرك بالله أو قريب منه. ولا يعتقد مؤمنون كثيرون أن الله ربّ العالمين لا يعترف باختلاف الناس في العالم ولو كان كذلك لخلقهم أمّة واحدة. والاختلاف يعني دعوة مُستمرّة إلى الحوار والتفاهم والتساوي والعدل والحريّة وعدم اللجوء إلى سفك الدماء وما يتبع ذلك من ممارسات غير أخلاقيّة وغير دينيّة.
ملاحظة: حلّت الـ"/" مكان "لا" في العنوان يوم أمس فتغيّر المعنى.
سركيس نعوم - النهار