قبل سنة من اليوم، حضرت لقاءً في اسطنبول مع وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو. اتّسم اللقاء بصراحة متناهية أطلقها الوزير التركي على الحوار الذي جمعه مع الصحافيين العرب، على هامش ملتقى اسطنبول. واعتبر حينها أنه يريد أن يتحدث بصراحة، وبلا أي مجاملة. كانت حينها محادثات آستانة في أوجها، وتتركز على إيجاد حلّ لمعضلة إدلب. وحينها أكد الوزير التركي أن بلاده لن تسمح باستنساخ ما حدث في حلب والغوطة. ولن تسمح بتهجير نحو أربعة ملايين سوري مجدداً. وجه الوزير انتقادات إلى بعض الدول العربية على خلفية مواقفها المتحولة والمتغيرة من الثورة السورية، وإلى صفقة القرن، وحصار قطر، وحرب اليمن "التي خسروها بسبب عدائهم للتيارات الاسلامية، فاستثمر فيها الحوثيون وأنجزوا سيطرتهم على منطقة تشكل تهديداً للأمن القومي السعودي".
الغضب من السؤال
وكما منذ بداية الثورة السورية والتدخل التركي فيها، إلى اليوم، لا تزال أنقرة مهجوسة بالمنطقة الآمنة. في ذلك اللقاء تحدث الوزير التركي عن القوات المشتركة بين تركيا والدول العربية ولا سيما الخليجية، من أجل تسلّم منطقة شرق الفرات بعد انسحاب الأميركيين منها. وفي يوم اللقاء هذا، كانت هناك مناورات تركية - سعودية - قطرية في إطار القوات المشتركة لتسلّم تلك المنطقة. لكن هذا التحالف المشترك، ذهب أدراج الرياح كما هو حال كل التحالفات التي يعتزم العرب وحلفاء الولايات المتحدة الاميركية بناءها أو إنشاءها. والأمر لا يزال ينطبق إلى اليوم على "التحالف الذي يريد ترامب بناءه لتأمين حماية الخليج ونفطه".
يومها طرحت سؤالاً على أوغلو أزعجه إلى حدّ بعيد، ودفعه إلى رفع الصوت رافضاً منطق السؤال، الذي كان: "هناك معادلة أصبحت واضحة بالنسبة إلى بعض الأطراف، أن تركيا تقايض على بعض المناطق السورية، فكما كانت حلب مقابل الباب، والغوطة مقابل عفرين، هل يمكن أن تكون إدلب مقابل منبج وشرق الفرات؟ خصوصاً في ظل إصرار النظام السوري والروس والإيرانيين على إستعادة إدلب؟" بدا الغضب واضحاً على ملامح الوزير، وفي نبرة صوته. وقد أجاب بنبرة "هجومية"، قائلاً: "هل تظنّ أن تركيا تقايض على دماء الناس وتهجيرهم؟ نحن نتكفل بحماية السوريين، ونستقبلهم ونستضيفهم، ونريد بناء منطقة آمنة لهم". تلك المنطقة الآمنة يريدها الأتراك لقطع الاتصال بين المناطق الكردية، وهذا ما يؤرق تركيا بالتحديد.
رئة للتنفس
أستذكر هذا اللقاء وبعضاً من مجرياته، بسبب التطورات الحاصلة اليوم، في سوريا، والتقدم السوري المدعوم روسياً في إدلب، بينما تركيا تجد نفسه محشورة أكثر في تلك المنطقة.. وبسبب زيارة وزير الخارجية التركي إلى لبنان الذي نال جزءاً من حديث أوغلو في ذلك اللقاء، قائلاً: "لقد نظمت انتخابات برلمانية في لبنان أدت إلى خسارة الرئيس سعد الحريري، فلماذا خسر؟ الجميع يعرف السبب"، كان حينها يلمّح إلى السياسة السعودية التي تؤدي إلى خسارة حلفائها، مستخدماً المثل القائل: "إسمع لصديقك الذي يبكيك، ولا يضحك عليك".
مرّت سنة على اللقاء، وثماني سنوات على الثورة السورية، وكل من أيدها أو ادعى دعمها يجد نفسه غارقاً في الخسائر، والبحث عن ما يوقفها. وتأتي زيارة أوغلو إلى لبنان، في لحظة تستشعر فيها حكومة تركيا أنها محاصرة أكثر من أي وقت مضى، باستحقاقات متعددة، من خسارة الحزب الحاكم انتخابات اسطنبول التي تتغير جذرياً تجاه السوريين والعرب، وتستعيد نفحة "قومية تركية"، ومحاصرة بالإصرار الروسي والإيراني على كسر التوجهات التركية في إدلب، ومحاصرة أميركياً وعربياً في شرق الفرات وفي دعم الاكراد. وأيضاً تجد نفسها محاصرة في البحر المتوسط نفطياً، ومحاصرة اقتصادياً.
تبحث أنقرة عن رئات جديدة للتنفس، تعلم أن حلفاءها وخصومها، لا يريدون لها أن تبقى على ما هي عليه سياسياً، ويراد لها أن لا تكون عاصمة للمعارضات العربية، وملاذاً لكل العرب الهاربين من أنظمتهم، فوجدوا فيها محطّ رحالهم، تعاني من ملفات مشابهة لما يعانيه لبنان من أزمة اللاجئين، وعرقلة التنقيب عن النفط والغاز، لكن ما فارق أن لبنان يلعّب دوراً ريادياً في دعم الاقتصاد التركي عبر مئات آلاف السياح اللبنانيين إلى مختلف المحافظات. هذه الهموم المشتركة، تريد تركيا أن تبحثها بتعزيز علاقاتها اللبنانية، لإعادة تظهير حضورها الإقليمي. لكنها تعلم أيضاً أنها لا تحظى بمقبولية سياسية في لبنان.
الشمال اللبناني
تبدي تركيا الاستعداد للمساعدة في مجالات مختلفة كالكهرباء، والتجارة البحرية. وبما أن من يكون له يد طولى في سوريا، لا بد لها أن تطال لبنان، تطمح تركيا لتوسيع نفوذها اللبناني وتحديداً في منطقة الشمال، عبر العديد من النشاطات والمساعدات التي تقدمها، وفي الزيارات المتعددة للأتراك إلى تلك المنطقة، بحثاً عن توسيع أفق التجارة، وربط مرفأ طرابلس بمرفأ مرسين، خصوصاً بعد استثمار الروس في خزانات النفط، ووجود إيران بقوة على الساحة اللبنانية، وفي ظل غياب عربي لافت. إذاً، تطمح أنقرة لتعزيز نفوذها عبر هذا الحضور والمساعدات، فهي أيضاً شريكة الروسي والإيراني في محادثات آستانة، لرسم السياسات حول سوريا، ومن يكون شريكاً في سوريا، يبحث تلقائياً ما يوازيه كحصة في لبنان.
غاز المتوسط
إلى جانب الأكراد، هناك هاجس آخر يؤرق الأتراك، يتعلّق بالتنقيب عن الغاز في البحر المتوسط. تتوجس أنقرة من تحالف رباعي يتنامى بين مصر وإسرائيل وقبرص واليونان، للتنقيب عن النفط وتصديره إلى أوروبا، وهذا يشكل تهديداً استراتيجياً لأنقرة، التي تبحث عن كيفية مواجهته، لحماية صادراتها ولتأمين فرصتها في التنقيب التي يعارضها الأوروبيون. هذا كان جزءاً أساسياً من مباحثات أوغلو في بيروت، الذي قدّم عرضاً ببناء خط مشترك تركي لبناني لتصدير النفط والغاز إلى أوروبا، في محاولة لبناء خط متوسطي بديل للخط الرباعي الآخر. وهو استند في ذلك إلى تشابه بين ما يعتبره إعتداء من هذا الحلف على الحقوق النفطية لتركيا في المتوسط، والاعتداء على الحقوق النفطية للبنان من قبل إسرائيل. تريد تركيا للبنان أن يكون شريكها للدخول إلى اتفاقيات استخراج النفط.
ولكن ما يغيب عن بال الأتراك، أن ليس بالنفط فقط تُحل المشكلة. فالتحول الذي يضرب اسطنبول من حاضنة للاجئين العرب والسوريين تحديداً، يضرب العالم بأسره. نزعة العنصريات أو القوميات الطائفية والإثنية التي يعاد إنتاجها تنال من تركيا بكليتها وكيانيتها أيضاً، وليس فقط تهدف إلى حصر دورها داخل حدودها. التحول الحاصل هو نتاج لإعادة إحياء ما يسمى بتحالف الأقليات، الذي على أساس تغذيته سقطت السلطنة العثمانية، وها هو يتكرر ثانياً، وقد يهدد الوحدة التركية بذاتها، ما لم تخرج أنقرة من منطق التكتيك، تارة إلى جانب الروس والإيرانيين، وطوراً بجريرة الأميركيين. غير ذلك لن يكون بإمكانها الدفاع عن وحدتها وليس فقط عن حدودها النفطية. وهذا يحتاج إلى تغيّر جوهري وحقيقي في إدارة الملفات والتعاطي معها.
منير الربيع - المدن