ازدحمت طاولة الدولة، أو بالأحرى هذه الدولة الطاولة، بفيض متلاحق من الحديث عن الإستراتيجيات، نعم الإستراتيجيات، ولكن في هذه الأيام الصعبة، التي بالكاد توصلنا بعدها اخيراً، الى الخروج من فراغين يدمران الدول عادة : الفراغ الرئاسي الذي إستمر عامين ونيفاً، وفراغ "المُقدّم" لتشكيل الحكومة وقد إستمر ثمانية اشهر، ثم فراغ "المؤخّر" بعد قبرشمون، الذي عطّل السلطة التنفيذية شهرين، والأزمات تتلاحق لتخنق لبنان!
لكن السؤال الضروري الآن هو: هل إنتهى فعلاً مسلسل الأزمات المتراصة، لكي تصير دولة مثل الدول لا طاولة للصراع السياسي؟ المؤشرات العملية الأخيرة، والشرر السياسي والحزبي المتطاير في كل الإتجاهات، تدفعني الى القول: يا حصرماً نراه في بيروت!
طبعاً ليس هناك من يصدق أو يتصور، ان من الممكن وسط هذه الإنقسامات السياسية، والخلافات الشخصية، وسياسة المكائد، ونصب الفخاخ، وتنجير المقالب، ان يتوصّل المستوى السياسي في هذا البلد السعيد، الى فهم أولي لمعنى الحديث عن الإستراتيجية، وذلك لسبب بديهي بسيط طبعاً، هو ان الاستراتيجية تحتاج الى بلد، ونحن لسنا بلداً، وتحتاج الى شعب واحد متفاهم ومتضامن، ونحن مجموعة من الشعوب، كي لا أقول اننا مجموعة من الناس المنقسمين، وسط هذه الخلافات الطائفية والمذهبية [ لا يحدثني أحد عن التعايش] وكذلك وسط التقاطعات الإقليمية والتدخلات الدولية، نحن مجموعة من المجانين "الى أبد الآبدين"، وعذراً يا صديقي جبران تويني، في علياء شهادتك وسمو قسمك، الذي نرفعه كحلم جميل ونحن على قناعة متزايدة باستحالته!
والإستراتيجية بعد حاجتها الى دولة وشعب، في حاجة الى سياسيين إستراتيجيين، ولحسن الحظ أو لسوئه، كل سياسي عندنا يتحدث عن الإستراتيجية، وكان هذا طبعاً منذ زمن طويل قبل الحديث المحتدم هذه الأيام، حول "الإستراتيجية الدفاعية" التي كانت قد وضعت عملياً في التداول، في مؤتمر "الحوار الوطني" الأول، ولا أعرف ولا أحد من السياسيين يعرف، كم مؤتمر حوار وطني عقدنا حتى الآن، وما شكل الطاولات والكراسي التي اخترناها، لنعود دائماً تيتي تيتي كما يقال!
صحيح ان البيان الختامي لـ"مجموعة دعم لبنان" التي إجتمعت في السابع من أيلول عام ٢٠١٧، في "مؤتمر سيدر" دعا كل الأطراف اللبنانيين الى مواصلة النقاشات الخاصة بـ"إستراتيجية الدفاع الوطني"، وصحيح ان الرئيس ميشال عون أعلن في شباط الماضي أنها ستكون موضع بحث بعد تشكيل الحكومة الجديدة، وأعاد تأكيد الأمر في آب من العام الماضي للاميركيين، وصحيح أنه كان أعد ورقة حول الموضوع في مؤتمر الحوار الوطني الأول، ولكن الصحيح أنه يتساءل الآن، ان كانت ورقته لا تزال صالحة بعد عشرة أعوام من التطورات العسكرية في المنطقة، وكما أوضح اعلام القصر أنه "ملتزم المواقف التي سبق ان اعلنها عن الاستراتيجية الدفاعية وضرورة البحث فيها في مناخ توافقي"؟
مناخ توافقي؟
إذاً دعونا نذهب الى الإستراتيجيات الأخرى: البيئية، والنفايات، والإقتصادية، وتطوير الإدارة، ومحاربة الفساد، وتطوير التربية، وتأهيل البنى التحتية، والى لا شيء... لأننا سيدي لسنا بلد الإستراتيجيات، للأسباب التي لا تخفى على أحد من الإستراتيجيين العظماء في هذا البلد السعيد جداً!
راجح الخوري - النهار