حين أقرّ المجلس النيابي موازنة العام الحالي، وتفاخر بتخفيض نسبة العجز فيها إلى 7.6%، جرى الترويج بحماسة لمساهمة المصارف في تحمّل جزء من كلفة تخفيض هذا العجز. فالموازنة احتسبت أرقام كلفة خدمة الدين المتوقّعة على أساس إنخفاضها بقيمة تتجاوز 660 مليون دولار، اعتماداً على مقترح وزير الماليّة القاضي بإصدار سندات خزينة بفوائد 1 في المئة، وبقيمة 11 ألف مليار ليرة. وهكذا ساهم هذا المقترح في تخفيض نسبة عجز الموازنة بهدف الامتثال لشروط المانحين في مؤتمر سيدر. لكن اليوم يبدو أن تنفيذ هذه الفكرة شبه مستحيل بعد كل الطعن الذي تعرّضت له من جهات عدّة، وهو ما أصبح يهدد مصداقيّة أرقام الموازنة نفسها.
حرق الفكرة في مهدها
يوم عُرض هذا المقترح أمام الرأي العام، وجرى على أساسه تضمين التخفيض في خدمة الدين في الموازنة، لم يعلن أي من مصرف لبنان أو وزارة الماليّة عن الآليّة المعتمدة لبيع هذه السندات البعيدة عن آليّات عمل الأسواق المعتادة. لكنّ حاكم مصرف لبنان أصرّ في ذلك الوقت على التأكيد على عدم وجود أي نيّة لفرض عمليّات "غير طوعيّة" على القطاع المصرفي. وهذا ما دفع الجميع إلى التساؤل عن الأفكار المتوافرة في جعبة الحاكم ووزير الماليّة الذي كان أوّل من أعلن عن هذه الفكرة.
لكن بمجرّد الإعلان عن تضمين مشروع الموازنة هذا التخفيض، توالت الضربات القاضية للطرح. فوكالات التصنيف الإئتمانيّة باشرت التحذير علناً من تحميل المصارف كلفة هذا التخفيض في خدمة الدين في حال اكتتابها بهذه السندات، حتّى بلغ الأمر التلويح بتخفيض التصنيف الإئتماني للبنان، في حال حصول أي إعادة هيكلة للديون، علماً أن هذا النوع من العمليّات يُعد عمليّاً إعادة هيكلة الديون حسب تعريفات هذه الوكالات. أمّا صندوق النقد الدولي فدخل على الخط محذّراً من أي محاولة لتحميل مصرف لبنان الكلفة عبر تدخّله للاكتتاب بنفسه بهذه السندات.
وهكذا تلقّى المشروع الضربات القاضية في مهده، عبر تهويلات صندوق النقد وتقارير وكالات التصنيف. وأصبح تنفيذه نوعاً من "الإنتحار المالي" سواء اكتتب مصرف لبنان بهذه السندات أو المصارف الخاصّة، إذ إرتبطت الفكرة في الأسواق الماليّة بكل التحذيرات التي جرى اطلاقها. وبعد "حرق المشروع" قبل دخوله حيّز التنفيذ، لم يبق منه سوى التخفيض الذي تضمنه بند خدمة الدين العام في الموازنة العامّة. وهكذا تحوّل المخطط إلى حبر على ورق الموازنة، إذ لا تملك وزارة الماليّة حاليّاً أي مخرج لتنفيذه. وبالتالي، يبدو أن الدولة لن تستطيع تحقيق التخفيض المزعوم في خدمة الدين في الموازنة، وهذا ما يطعن جديّاً اليوم بجديّتها وصدقيّتها.
سلامة يريد مخرجاً
حاكم مصرف لبنان من جهته يعلم حجم المأزق. إذ أنّ وزير الماليّة ورئيس الحكومة أشارا مرّات إلى أنّ التخفيض في بند خدمة الدين في الموازنة استند إلى التنسيق مع مصرف لبنان بالدرجة الأولى، في سياق التحضير لفكرة السندات المنخفضة الفوائد. وهكذا أصبح المطلوب من سلامة المساهمة في إيجاد المخارج حفاظاً على مصداقيّته، إضافة إلى مصداقيّة الموازنة. وبينما أصبح تدخّله لشراء هذا النوع من السندات شبه مستحيل بعد كل تحذيرات صندوق النقد، يبحث مصرف لبنان حاليّاً عن طرق بديلة تحقق هذا التخفيض في خدمة الدين من دون تنفيذ فكرة السندات المخفّضة الفوائد. وهذا ما صرّح به تحديداً حاكم المصرف المركزي مؤخّراً.
الأفكار المطروحة في الأوساط المصرفيّة تتمحور حول بعض المخارج المحاسبيّة، من قبيل استعمال بعض فروقات تخمين موجودات مصرف لبنان، أو السماح للمصارف بتنزيل جزء من الاحتياطي الإلزامي الذي لا تتقاضى عليه فوائد للاكتتاب بسندات منخفضة الفوائد. لكن لدى العودة لكل هذه الأفكار، تعود المخاوف من ردّات الفعل السلبيّة من وكالات التصنيف أو صندوق النقد، خصوصاً أن كل هذه الأساليب لا تنفي حقيقة أن ما يجري هو عمليّة إعادة جدولة جزء من الدين العام. وهذا ما يشكّل نقطة سلبيّة بحسب نظرة هذه التقارير.
هل تسرّع المسؤولون في الموازنة؟
من غير الواضح إذا كان مصرف لبنان يستطيع إيجاد أي مخرج لهذه المشكلة، إذ أن ذلك سيعتمد بالدرجة الأولى على تلقّف الأسواق والتقارير الماليّة لأي من هذه المقترحات. لكن الأكيد أن سبب الدخول في عنق الزجاجة كان بالدرجة الأولى تضمين الموازنة هذا التخفيض في خدمة الدين، من دون التأكّد من إيجاد الطرق الكفيلة بتحقيق هذا التخفيض، ومن دون البحث الكافي في ردّة الفعل المحتملة في الأسواق على هذه المقترحات. وبينما كان من الواضح أن المسؤولين كانوا يسعون إلى تحقيق التخفيض المطلوب في العجز لتلبية شروط مؤتمر سيدر، يبدو أن عواقب المأزق الحالي يمكن أن تطال تقييم الجهات المانحة لجديّة الدولة، خصوصاً أن النتيجة ستكون الفرق الفادح بين نسبة العجز الفعليّة وتلك التي استهدفتها الموازنة.
علي نور - المدن