بدا كلام رئيس حزب الكتائب، سامي الجميّل، يوم الأربعاء، مستلاً من خارج يوميات السياسة ومبتذلها اليومي. بدا "أجنبياً" غريباً، كرجل يدخل إلى حفل موسيقي صاخب ويبدأ عزفاً منفرداً.
وأجنبية الجميّل تتضاعف أكثر طالما أنه يصنف نفسه "معارضة"، في نظام سياسي تم فيه - منذ اتفاق الدوحة 2008- إلغاء الديموقراطية التقليدية، وفرض بدعة "الديموقراطية التوافقية" عنوة وتحت التهديد المسلح. وعليه، أن تكون معارضاً فهذا خروج من النظام واغتراب.
ما قاله النائب الكتائبي، أخذنا بالذاكرة إلى ما كنا نكابده في التسعينات، حين كان أنصار التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية والوطنيين الأحرار والكتائب يلهجون بمفردات غريبة من مثل "انسحاب جميع الجيوش الأجنبية" أو يعمدون إلى استخدام عبارة "الاحتلال السوري" المهولة والمفزعة حينها، أو يلفظون كلمة "السيادة" التي تحمل في طياتها نفياً لشرعية السلطة القائمة. وكنا نقول في أنفسنا أن هؤلاء مثيرو متاعب ويعانون من ضعف في التأقلم مع الواقع، ويكابرون في الاعتراف بالجمهورية الثانية، وغير واقعيين. بل وكنا نرتاب من لغتهم التي لم تغادر كثيراً قاموس "الجبهة اللبنانية"، الذي يجعل كل الشعارات في نهاية المطاف تغليفاً لعصبية "لبنان المسيحي" ولبنان امتيازات "المارونية السياسية" الآفلة.
لم نكن نصدّق في مطلع التسعينات هكذا "معارضة" إلا بوصفها "فئوية" هدفها الارتداد على السلم الأهلي وعلى اتفاق الطائف، رغم ميلنا العاطفي (المكتوم) لمناهضة الجيش السوري، واحتقارنا لنظام الأسد.
مع تزايد قمع الحريات من ناحية، وتعطّل اتفاق الطائف، وتفاقم التهميش المتعمد للرأي العام (المسيحي خصوصاً) وتزييف التمثيل النيابي على نحو فاضح، وانحراف النظام السياسي برمته نحو التبعية للمخابرات السورية الماحقة والمهينة، إضافة إلى تحول "مقاومة الاحتلال الإسرائيلي" إلى وظيفة إقليمية تتقدم فيها المصالح السورية والأسدية على غاية التحرير، بل وتعرقلها، وتستجلب الحروب، وتحول الجنوب إلى "صندوق بريد" متفجر، ورهينة إرادة حافظ الأسد فيما سمي "وحدة المسار والمصير".. صار الشعور بالحاجة إلى "معارضة" جديدة متحررة من تروما الحرب طاغية على شرائح واسعة من اللبنانيين.
الصلف الذي اتسم به النظام الأمني المشترك السوري واللبناني توضح تماماً مع وصول إميل لحود إلى الرئاسة. وفي تلك الفترة أيضاً، أدركت الأحزاب والتيارات المسيحية (والكنيسة) أن مطلب الحرية والسيادة والاستقلال شبه مستحيل التحقق من دون تبني شريك مسلم له. وكان هذا أول درس في "الواقعية". أما الدرس الثاني، فهو الاقتناع أن لا معنى ولا جدوى من تحويل الحنين للبنان ما قبل 1975 إلى برنامج سياسي. وأن لبنان اتفاق الطائف، "الجمهورية الثانية" بوسعها أن تحقق دولة أفضل وأعدل للجميع، واستمرارية مطمئنة لـ"الصيغة" والميثاق الوطني.
بالطبع، حقق مشهد 2005 إنجازات كبيرة، لكن سرعان ما تبددت انتصاريته الكرنفالية بسطوة الإرهاب والاغتيالات، ثم الخيانات الكبرى (من الحلف الرباعي إلى تفاهم مار مخايل). الواقعية انتهت إلى مفاسد الانتهازية ومنافعها المجزية. والواقع الطائفي أضحى طائفياً إلى أسفل درك التعصب والعدوانية والغرائزية.
على هذا المنوال، تعفنت عبارات السيادة والحرية والاستقلال من ناحية، وفسدت عبارات المقاومة والكرامة والتحرير. لقد تم تقاسم اللغة المزيفة، وتساوى الجميع في هذا الهراء الوطني.
عندما "يستيقظ" سامي الجميل اليوم ليتلو (ولو بصدق وإيمان) اعتراضه الجذري على خطاب حسن نصرالله، معتبراً إياه "مخالفة فاضحة للدستور ولمنطق المؤسسات وللميثاق الوطني، وخروج عن الشراكة التي تؤكد أن قرار السلم والحرب يمر بالمؤسسات، ويعبّر عنه فيها (..) وأن مجلسي النواب والوزراء لهما الصلاحية في تقرير مصير البلد. ولا يحق لأي أحد أن يقرر عن اللبنانيين مصيرهم ومستقبلهم وقرار السلم والحرب لديهم".. يبدو وكأن النائب الكتائبي غائب تماماً عما أسماه "الرئيس (الماروني) القوي" ميشال عون "تغييراً في مناطق النفوذ ومواقعه" في إقرار من أعلى مراتب السلطة وتسليم بهيمنة المحور الإيراني على لبنان وسوريا وانمحاء الحدود بينهما كجبهة واحدة لحسن نصرالله وحلفائه..
هذه المرة واقعية عون تتجاوز فعاليتها بأشواط واقعية إميل لحود، طالما أن لها الآن جمهوراً مسيحياً عريضاً يتوسلها لـ"استعادة حقوق" مقابل تسليم مصير الجمهورية اللبنانية لسلاح حزب الله المدافع عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية قبل أي شيء آخر.
على هذا كله، ليس النائب الجميل هو الغريب أو اللاواقعي، بل على الأرجح أن لبنان نفسه، بيئة واقتصاداً واجتماعاً وثقافة وسياسة، هو الذي صار بلداً آخر، غريباً وأجنبياً ولا واقعياً.
يوسف بزي - المدن