ليس مهماً ما إذا كانت السدود المزمع إنشاؤها، من بسري مروراً بجنّة، ووصولاً إلى بالوع بلعة، ستقضي على التنوع البيولوجي، وتؤدي إلى التصحّر جراء قطع الأشجار، بل المهم الاحتفاء بـ"الإنجازات" على طريقة أغنية "إحنا بنينا السد العالي". وليس مهماً تكبّد مليارات الدولارات على سدود لن تؤدي وظيفتها، أي تجميع المياه المطلوبة، كما يقول الخبراء المعترضون عليها، فالمهم إنجاز "الخطط الخمسية والعشرية" على الطريقة "السوفياتية"، حتى لو كانت مجرد كلام في الهواء.
كعب آخيل
كأننا بالوزير جبران باسيل الذي ظهر بصورة السيلفي أمام سد جنّة في جبيل الأسبوع الفائت، يردد: "الحكاية مش حكاية السد. الحكاية الكفاح إللي ورا السد"، كما غنى يوماً عبد الحليم حافظ محتفلاً بعزيمة جمال عبد الناصر في بناء السد العالي. الكفاح الباسيلي جعله يحتفي بقدراته الخارقة معلقاً تحت تلك الصورة: "سدّ جنّة، زرته بـ12 آب 2018، وقال لي مدير المؤسسة ومدير المشروع انّن بيحفروا 60 متر تحت مستوى النهر بعد سنة تقريباً.. واليوم عم زورو بعد سنة لشوف بعيني انّو وصلوا للكعب".
وصلوا إلى الكعب، لكن وما أدراك ما الكعب. فطبيعة الأرض حيث يشيدون السد صخور متكسرة ومتشققة تتسرب المياه من خلالها إلى جوف الأرض لتصل إلى منطقة جعيتا. فقعر النهر الذي احتفى باسيل بالوصول إليه بعد حفر نحو 60 متراً عبارة عن "مصفاة" مياه، كما يقول المتخصص في الهيدروجيولوجيا الدكتور سمير زعاطيطي لـ"المدن".
وكشف زاعطيطي شخصيا في السابق على طبيعة الأرض وكان برفقة أستاذه ميشال باكالويتز، الذي بات اليوم رئيس رابطة الهيدروجولوجيين في فرنسا، واستغرب حينها العزم على بناء السد في تلك المنطقة بصخورها المتكسرة والمتشققة.
وبعيدا عن هذه المعاينة، حتى الشركة الألمانية BGR التي استقدمتها الدولة لدراسة سبب التلوث الكيميائي والجرثومي لنبع قشقوش، الذي يصب في مغارة جعيتا، أوصت في العام 2012 بعدم بناء السد في تلك المنطقة، وفق زعاطيطي.
وبعد سنوات أربع من الدراسة أوصت الشركة الألمانية مصلحة مياه بيروت ووزارة الطاقة بعدم بناء السد في جنّة، كون نحو ثلاثين في المئة من مياه نهر إبراهيم تتسرب إلى باطن الأرض لتصل إلى نهر جعيتا الذي تتغذى منه العاصمة بيروت بنحو 70 في المئة من مياهها. وأوصت الشركة في تقريرها استبداله بسد في داريا قرب جعيتا، متعهّدة إمكان تجميع 9 مليون متر مكعب سنويا من المياه، بكلفة لا تتجاوز خمسين مليون دولار، بينما يكلف سد جنة أكثر من 360 مليون دولار. لكن هذا الرأي لم يرق لأصحاب المشروع ولم يأخذوا بتوصيات الشركة. فالعلم شيء وسياسات المياه في لبنان شيء آخر، يعلق زعاطيطي.
ورغم أن قعر النهر، أي "الكعب"، عبارة عن "مصفاة"، والحفر للوصول إليه لن يعالج مشكلة تسرب المياه، فقد جرفوا الوادي والسهل وقطعوا الأشجار لبناء السدّ، حسب زاعطيطي، مشيراً إلى أن تسرب المياه سيرتفع من ثلاثين في المئة الحالية إلى نحو خمسين في المئة خلف السدّ. ما يجعله يعتقد أن الهدف الوحيد من هذا السد، إسوة بباقي السدود، بيع البحص والرمول الناتجة عن الحفر وتمرير صفقات مشاريع الباطون وشق الطرق.
سدود التيار
هذه الآراء العلمية حول طبيعة الأرض وتوصيات الشركة الألمانية التي استقدمتها الدولة، يواجهها أحد المهندسين المخضرمين في التيار الوطني الحر ويحاجج فيها: "كيف تقولون أن نهر إبراهيم يذهب إلى نهر جعيتا، ها هو واضح للعيان أمامكم أنه يصب في البحر!".
ويتابع زعاطيطي: هذا السد إسوة ببقية السدود شابته فضائح علمية كثيرة، وكشف عن مدى زيف الادعاءات التي تبرر تشييدها. فقد تم بناء خمسة سدود حتى الساعة، ولم تجمع نقطة ماء واحدة. وها هو سد بريصا في سير الضنية، الذي كلف 26 مليون دولار و12 عاماً من العمل ماثل للعيان. والأسوأ أنهم خصصوا له 15 مليون دولار من أموال سيدر لترقيعه.
أما بالوع بلعة فقد بات من الأمثلة العالمية عن السدود الفاشلة، التي يجب تجنّبها. ففي مؤتمر علمي عالمي عن السدود في فرنسا، حضر سدّ بالوع بلعة كأحد الأمثلة عن السدود الفاشلة حول العالم. وتم تناول اللبنانيين بالهزء في محاولاتهم لسد المسارب الطبيعية في الأرض، كما لو أن المسألة ثقوب يمكن حشوها بالإسمنت، على حد تعبير زعاطيطي الهازئ بدوره من كيفية تعاطي المسؤولين مع هذه الأمور العلمية.
وعن سد بسري الذي ما زال يسعى الأهالي لتجنبه، لفت زعاطيطي إلى أن مراجعة الخارطة الجيولوجية التي وضعها الفرنسيون بين العام 1922 والعام 1955، تشير إلى أن وادي بسري انهدامي وانخسافي وواقع على فالقي روم وبسري الزلزاليين. ليس هذا وحسب، بل أن طبيعة الأرض غير صالحة لبناء السدود. وقد عاين الأمر شخصياً بحكم عمله لنحو ثلاثين عاماً في جنوب لبنان مشرفاً على حفر الآبار الارتوازية. وتبيّن من حفر أربعة آبار بين بلدة بنواتي وبسري أن طبيعة الصخور غير مقاومة وهشّة، وأدت إلى انخساف ودمار أحد الآبار على عمق أربعمئة متر لحظة الانتهاء منه. زد على ذلك أن لا مياه ستزوّد السدّ، بسبب جفاف النهر خلفه وتحوله إلى مجرى للصرف الصحي لقرى المنطقة. ما جعل القيّمين عليه يجرّون مياه الليطاني، رغم تلوث بحيرة القرعون، وفق زعاطيطي.
وعن الحلول البديلة، يشدّد زعاطيطي على حفر الآبار الارتوازية عوضاً عن هذه السدود الثلاث. فالاعتماد على المياه الجوفية أفضل الحلول، خصوصاً أن الثروة المائية في لبنان مقسمة على ثلاثة أرباع جوفية وربع سطحي، أصبح ملوثاً بكل الأحوال.
وضرب مثلاً عن الآبار في وادي جيلو التي تزوّد 90 بلدة في قضاء بنت جبيل بمياه الشفة، متسائلاً: لماذا لا يلجأون إلى المياه الجوفية الأقل كلفة؟ ويجيب: لا يريدون تنفيذ مشاريع بكلفة لا تتخطى عشرة آلاف دولار للبئر الواحد، بل المشاريع التي تدرّ الربح السريع والكبير.
وليد حسين - المدن