التناقض الواضح بين موقف رئيس الحكومة سعد الحريري المعلن في الولايات المتحدة الاميركية، والموقف الذي أطلقه رئيس الجمهورية ميشال عون في بيت الدين، يعكس استمرار التجاذبات والتنازع بين القوى السياسية المؤتلفة في لبنان تحت سقف التسوية الرئاسية. ما يريده كل طرف، هو تعزيز موقعه في علاقاته الدولية ضمن إطار الحفاظ على هذه التسوية. لذلك أطلق الحريري موقفه عندما سمع المواقف الأميركية، وخصوصًا بما يتعلق بترسيم الحدود، وتطبيق القرارات الدولية، فلاقى العديد من الاعتراضات اللبنانية.
عون الحانق
تركزت تلك الاعتراضات في هجمات مركزة على الحريري، ولها أسبابها، منها البسيطة أهدافها وخلفياتها كجزء من عاديات التجاذب السياسي في البلد. ومنها الجوهرية التي ترتبط بالصراع بين القوى، ومن منها ستناط بها مسؤولية العلاقة بالأميركيين والمجتمع الدولي.
عملياً، لاقى حديث الحريري عن القرار 1701، وترسيم الحدود، وطرح الأميركيين معه ملف الاستراتيجية الدفاعية، وما يرتبط بها سياسياً وعسكريا، ردّاً سريعاً من رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي اعتبر أن هناك تغييراً في مناطق النفوذ ومواقعه، وفي الظروف والمرتكزات التي كانت تدفعه إلى الدعوة إلى طاولة حوار تبحث في الاستراتيجية الدفاعية. الكلام هذا يعني أن عون نسف الاستراتيجية الدفاعية، أو أجّل البحث فيها، بعد مواقف عديدة له ولمسؤولين محسوبين عليه حول بحثها قريباً.
وعلى الرغم من صدور توضيح لاحق عن القصر الجمهوري حول ما قاله الرئيس بشأن الاستراتيجية الدفاعية، إذ اعتبر البيان التوضيحي أنه كان توصيفاً للواقع الذي استجد بعد عشر سنوات على طرح هذا الموضوع، خلال جلسات مؤتمر الحوار الوطني، لاسيما التطورات العسكرية التي شهدها الجوار اللبناني خلال الأعوام الماضية والتي تفرض مقاربة جديدة لموضوع الاستراتيجية الدفاعية، تأخذ في الاعتبار هذه التطورات، خصوصاً بعد دخول دول كبرى وتنظيمات إرهابية في الحروب التي شهدتها دول عدة مجاورة للبنان، ما أحدث تغييرات في الأهداف والاستراتيجيات لا بد من أخذها في الاعتبار.
إلا أن هذا التوضيح يشير إلى المسار السياسي الذي يراد له أن يُسلك في هذه المسألة، إذ أن الحديث عن شمول الاستراتيجية الدفاعية لمحاربة الارهاب، يعني اعطاء حزب الله دفعاً أقوى كونه الطرف الأساسي الذي حارب الإرهاب إلى جانب الجيش وبالتنسيق معه. وهنا ايضاً يوصل عون رسالة إلى المجتمع الدولي بوجوب التعاطي مع حزب الله كطرف محارب للإرهاب ومسهم في تثبيت الاستقرار.
على كل حال، كلام عون لا يهدف إلى الردّ على الحريري فقط، بل هدفه إبلاغ رسالة إلى الأميركيين، مفادها أن هذا الملف لا يُبحث مع رئيس الحكومة في لبنان، إنما مع رئيس الجمهورية أو من يمثّله. أي ذراعه القوية سياسياً وديبلوماسياً: الوزير جبران باسيل.
لا شك في أن ثمة حنقاً لبنانياً من الحفاوة الأميركية في استقبال الحريري، على عكس زيارة باسيل الأخيرة إلى واشنطن التي لم تحظ بأي اهتمام. وتتكامل رسائل عون السياسية، وصولاً إلى رده على ما يحكى عن عقوبات قد تفرض على حلفاء حزب الله.
البازار والعقوبات
لذا، لجأ عون إلى اللهجة المتشددة في ردّه على الأميركيين، مدركاً بالطبع أن لا قدرة للبنان على مواجهة واشنطن. لكن هدفه يبقى هو فتح بازار تفاوضه المباشر معها. إذ ليس هيناً أن يقول عون إنه لا يرضخ للضغوط الأميركية. وكلامه هذا لا يبدو منسجماً مع رئيس لبناني وماروني. لكن من يعرف طبيعة عون، يعلم أن هذا النوع من التصعيد، غايته تحقيق مردود سياسي. لذلك استخدم عون في هجومه، نقاطاً ثلاثاً: الأولى، نسف الاستراتيجية الدفاعية. والثانية، القول إنه لا يقبل استلام رسائل له عبر الحريري، بل عبر فتح خطوط التواصل المباشر معه. والثالثة، أن على الجميع التعامل معه كرئيس لأكبر تكتل وتيار مسيحيين. وهذا ما عناه بقوله إنه لن يضغط على باسيل، الذي يريد الرئيس استثمار الملفات كلها لفتح طريقه إلى العالم، خصوصاً أن باسيل عندما زار واشنطن كان يأمل عقد لقاءات مع المسؤولين هناك، وهذا ما لم يحدث. بل وهذا ما استدعى رداً من عون على الأميركيين، الذين تصرفوا بشكل مختلف مع الحريري.
في هذا السياق، يستعد باسيل للذهاب إلى الولايات المتحدة الأميركية مجدداً في شهر أيلول المقبل، للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويعمل أيضاً على تحضير مواعيد مع مسؤولين في العاصمة الأميركية، قبل توجهه إلى نيويورك.
تجنّب تفويض الحريري
تصعيد عون ليس سوى خطوة استباقية، في مواجهة التلويح الأميركي بإصدار عقوبات بحق شخصيات متحالفة مع حزب الله. ولدى صدور مثل هذا القانون لن يكون من السهل إلغاءه. والتصعيد ليس سوى مساومة مع الأميركيين، هدفه تجنب العقوبات.
الملفت أيضاً أن الحريري قال من واشنطن إنه يريد تطبيق القرار 1701، أي وقف إطلاق النار، وليس فقط وقف العمليات العسكرية. وهذا يندرج في خانة التكامل مع ترسيم الحدود، الذي لا يمكن أن يبدأ مع التنقيب عن النفط، من دون تثبيت وقف إطلاق النار.
هل يستند موقف الحريري إلى تفاهم مع حزب الله؟ ربما أزعج كثيرين دخول الحريري بقوة على هذا الملف، الذي لا يريدون أن يكونوا في منأى عن التقرير فيه. هنا يرتكز عون وفريقه على نقاط القوة في الداخل والخارج. وهي نقاط تسمح له بسحب الملف من يد الحريري. وذلك عبر التوازنات الداخلية والإقليمية أولاً، وثانياً عبر إمساكه بمصير الحكومة ومسارها، وثالثاً بموقعه الأقرب إلى حزب الله، الأقوى في فرض شروطه.
كانت الرسالة الأميركية، بمجمل فحواها: من يريد شيئاً من واشنطن فليبحثه مع الحريري. ولذا، انطوت مواقف عون الأخيرة على القول: نحن لها، أنا وباسيل، وليس الحريري. فنحن الأقرب من حزب الله لتحقيق ما يريده الأميركيون. وإضافة إلى ما يمتلكانه من أوراق ضغط على الحريري، فهما يراهنان أيضاً على امتلاك أوراق ضغط مبنية على الأمر الواقع، وعلى مسألة أساسية هي العناد والتحدي في سبيل تحقيق ما يريدانه. هذه التجربة نجحت معهما طوال السنوات الماضية. وعون وباسيل قادران على اتخاذ مواقف من شانها أن تتلاقى على المدى البعيد مع الأميركيين ومع الإيرانيين في الوقت نفسه.
منير الربيع - المدن