المزاج السياسي للجماعات (دينية كانت أم عرقية، وبدرجة أقل طبقية) غالباً ما تمنحه "آليات" الديموقراطية (انتخابات واستفتاءات) فرصة حقيقية للتعبير عن انزعاج كبير(malaise) من وضع عام: بطالة، هجرة، وضع اقتصادي منكمش، أزمة هوية.. إلخ. لكن في الحقبة الحالية، غالباً ما تأتي نتائج الانتخابات كتحدٍ مباشر للنظام العام، ومن خارج ما قبلته أغلبية دول الغرب بعد الحرب العالمية الثانية من "ضبط" للعبة السياسية بواسطة دساتير وقوانين "متسامحة"، تدير التنوع والاختلافات تحت راية "المواطنية".
هكذا أقرأ انتخاب ترامب أو الـ Brexit أو صعود اليمين المتطرف، الآخذ بالتصاعد التدريجي والثابت في العديد من البلاد مؤخراً.
وهكذا أقرأ أيضاً الحالة العونية في لبنان، والانتخابات النيابية منذ 2005 في الدوائر المسيحية. بمعنى أنها تجسيد من خلال صناديق الاقتراع لحالة غضب مسيحي قديم وعميق.
استفاق المسيحيون (وأعني هنا المسيحيون كحالة "وعي سياسي جماعي") بعد الحرب الأهلية وطعم الخسارة المدوية في فمهم. وهذا ليس سراً. وفاقم من هذا الشعور غياب وتغييب قيادتهم والتضييق عليهم وابعادهم عن السلطة، مع سيطرة زعماء الطوائف الأخرى بالتحالف مع النظام السوري على البلاد بالكامل بعد الحرب، والكثير من الأمور الأخرى التي زادت من مشاعر التهميش، أهمها صورة لبنان الذي "خسروه"، التي أدت إلى شعور عام حقيقي أنهم أصبحوا "غرباء" في لبنان.
لماذا هذا الكلام الآن؟
أولاً، لأن حالة الغضب المسيحية هذه كان بإمكانها إنتاج خيار سياسي آخر، عقلاني متنوّر، وسيادي، يستعيد معه المسيحيين دورهم السياسي الريادي، والذي - بالمناسبة - ما زال يحفظه لهم دستور الطائف. ولكن لم يحصل ذلك. فاختار قسم كبير منهم الحالة العونية منذ 2005، وذهبوا بعيداً جداً في تقليد الديناميكية السياسية لباقي الطوائف من أحديات أو ثنائيات حزبية. وابتعدوا عن السياسة بمفهومها الواسع، ودخلوا في المحاصصة، وابرموا اتفاقات مع أحزاب مسلحة لا تخضع لأي رقابة من أي نوع.. إلخ، ما أدى عملياً إلى خروجهم من اللعبة السياسية الوطنية والعربية بالكامل، ليصبح "أكبر" مشروع سياسي لهم اليوم هو "استعادة الحقوق". وهو شعار له وظيفة "شد العصب". وهو قطعاً شعار غير دقيق وشعبوي من جهة، وحزين جداً كتوصيف لحال المسيحيين اليوم من جهة أخرى.
ثانياً، ولسوء حظ المسيحيين واللبنانيين عموماً، صب غضب المسيحيين في الصناديق لصالح فريق سياسي خطير جداً (رأيي الشخصي)، لا حدود معه لشيء وعلى كافة الصعد. وما شهده لبنان ويشهده حالياً من انهيار كامل وشامل لكل مقومات الدولة، مع تصاعد الفساد والهدر، وغياب السيادة، والخطاب العنصري خير دليل على ذلك.
طبعاً، هذا يدعونا لأسئلة عدة، وتبرز اشكاليات عدة منها: كيف لنا أن نطلب من أي جماعة اختيار العقلاء لتمثيلها سياسياً، بينما جماعات أخرى تتمثل بغير العقلاء؟ ثم ماذا قدمت حالات الغضب هذه من حلول لمجتمعاتها عموماً، إلا المزيد من المشاكل والمزيد من العنصرية والشعبوية المقيتة؟
بقية الطوائف في لبنان عندما تقترع، فهي تنتخب مستندة إلى ما يسمى "الانتماء الأولي"، مذهب أو طائفة أو منطقة، مع هامش مهم للزبائنية السياسية، والتسليم بما أفرزته الحرب اللبنانية من ممثلين لهم وعليهم، بعكس المسيحيين بأغلبيتهم، الذين وإن شاركوا باقي الطوائف في "الانتماء الأولي" وفي منطق الخدمات، ما زالوا غاضبين، وغير مقتنعين بلبنان ما بعد 1990.
كيف نصالح المسيحيين مع دستور الطائف؟ وكيف نصالحهم مع دورهم السياسي الريادي اللبناني والعربي؟ وكيف نبعدهم عن التوتر وجنون "تحالف الاقليات"؟
قد تكون هذه الأسئلة أهم التحديات السياسية في تاريخ لبنان الحديث، إنقاذاً للبنان ولفك أسر ربما باقي الطوائف سياسياً من هيمنة الأحادية أو الثنائية.
أما "غضبنا" نحن فسيبقى إيجابياً، وسيذهب دائماً في اتجاه التصويت للدولة المدنية ودولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية والسيادة.
ميشال دويهي - المدن