من جملة انتهاكات حقوق العمال الأجانب في لبنان، هو التلاعب في عقود تأمينهم الصحّي، الذي يجعلهم خارج أي تغطية صحّية. فإقامة العامل الأجنبي وتجديدها تستلزمان عقد تأمين صحّي قانونياً.
الرجل امرأة
في تواصلنا مع عدد من العاملين في أكثر من شركة تأمين، تبيّن الأمر عن تلاعب خطير بمصير العمال الأجانب، تتبعه شركات استقدامهم إلى لبنان. فبوليصة تأمين العامل الأجنبي - حسب مصدر موثوق تحفظ عن ذكر اسمه - شروطها جيدة جداً، ويتمنى أي لبناني الحصول عليها، وخصوصاً أنّ كلفتها السنوية زهيدة جداً، وتتضمّن الاستشفاء حتى حدود 30 مليون ليرة، إضافة إلى دفع مبلغ 12 مليون ليرة لبنانية لذوي العامل، في حال وفاته، وتشمل نقل جثته إلى الخارج.
لكن شركات استقدام العمال تتواطأ مع شركات التأمين بهدف التوفير. فأسعار تأمين الرجال مرتفعة قياساً بالنساء. لذا يسجل الذكور نساءً في بوليصة التأمين، لتوفير نحو 70 دولاراً عن كل عامل. فتأمين المرأة 100 دولار، والرجل 170. وهذه واحدة من الحيل التي تلجأ إليها شركات الاستقدام، على الرغم من أنّ البوليصة تعتبر باطلة في هذه الحال. تفضّل شركات التأمين تأمين النساء، لأنّ شركات استقدام الرجال لا تلتزم بمعايير العمل في تشغيلهم.
شروط السلامة والمرض تختلف حسب المهن المصرّح عنها رسمياً، والتي لا تتطابق مع العمل الفعلي للعمّال. فالشركات تستقدم عمالاً زراعيين، وتشغلهم في محطات الوقود، أو حسب رغبة زبائنها.
بعد فرض وزارتا الاقتصاد والعمل نظام "الأونلاين" في التأمين، تبدل التواطؤ بين شركات التأمين وشركات الاستقدام: عشرات العمال يسجلون في بوليصة تأمين واحدة. وإذ كانت شركات التأمين "المرموقة" ترفض مثل هذه الحيل، فأن كثرة منها ومن المكاتب الوسيطة تقبل بهذا التواطؤ.
زمن البعث السوري
رئيس "مركز التدريب النقابي" أديب أبو حبيب، ينطلق من مبدأ أساسي لمعالجة الانتهاكات في حق العمّال والعاملات الأجانب: إحياء دور "المؤسسة الوطنية للاستخدام لتنظيم العمالة الأجنبية في لبنان". فقانون هذه المؤسّسة يمنع دخول أي عامل أجنبي إلى لبنان إلا بموافقتها. وإحدى مهام المؤسسة هي "درس احتياجات البلد لليد العاملة الأجنبية على الصعيدين الوطني والقطاعي، ومراقبة مكاتب الاستخدام الخاصة، وتقديم التوجيهات اللازمة لها".
لكن وزير العمل الأسبق عبد الله الأمين في مطلع التسعينيات، أصدر قراراً - وفق أبو حبيب - ألغى بموجبه كل مكاتب "المؤسسة الوطنية للاستخدام"، بحجّة ضبط سوق العمل في لبنان! وفي المقابل شرّع (لأقاربه غالباً) مكاتب خاصة لاستقدام العمال الأجانب، متحايلاً بذلك على القانون، وفاتحاً باب الانتهاكات على الغارب. وبدلاً من تمتّع العامل الأجنبي بالحقوق التي يتمتّع بها اللبناني، لجهة السكن والأجر والحقوق المدنيّة، بتنا أمام ظاهرة إتجار بالبشر تحت مسمّى "استقدام" العمّال الأجانب.
تخلّف القوانين
لكن موهانا إسحق، المحامية بالاستئناف ومسؤولة ملف الاتجار بالبشر في منظمة "كفى"، ترى أن المسألة لا تتوقّف عند تعطيل تلك المؤسسة الرسمية. فلبنان يحتاج إلى هيئات رقابية وعقوبات جديدة رادعة، لمنع الانتهاكات الناجمة عن نقص في القوانين التي ترعى حقوق العمال الأجانب. فالقانون الوحيد الذي ينظّم عملهم هو القانون الصادر في العام 1962، المتعلّق بدخولهم ألى لبنان، وإقامتهم فيه وخروجهم منه فحسب.
فمجموعة المراسيم حول كيفيّة دخول الأجنبي وعمله وحصوله على الموافقة المسبقة وإجازة العمل والإقامة، لا تواكب ظاهرة العمّال الأجانب التي تحتاج إلى تشريعات تمنع الانتهاكات. وإذا استثنينا قانون الإتجار بالبشر الصادر في العام 2011، بعد توقيع لبنان الاتفاقية الدولية المتعلقة به في العام 2005، ليس في لبنان نظام عمل ينظّم عمل الأجانب. فالقوانين اللبنانية لا تتدخل في تفاصيل علاقات العمل التعاقدية.
حلول وزارة العمل
في حديث مع مسؤول في وزارة العمل، شرح ممارسات شركات التنظيفات على النحو الآتي: بهدف استقدامها المزيد من العمّال في السابق، كانت تبرز أكثر من عقد في السنة الواحدة للحصول على الموافقات المبدئية من وزارة العمل. وباعتمادها تلك الحيل، تحولت مكاتب استقدام وهميّة. وإذ أكّد أنّ الوزارة باتت تتحقّق من المؤسسة وحاجتها للعمّال، لفت إلى أنّ الوزارة تعمل على وضع حل قانوني وجذري لتوقف هذه الممارسات. وأوضح أنّ الوزارة لم تتمكّن بعد من وقفها، مشدّداً على إجراء رقابة مشدّدة على طلبات الأذونات المبدئية للاستقدام.
وعن طبيعة الإجراءات قال: "نقوم حالياً باستدعاء المسؤول عن شركة التنظيفات، ونطلب منه كتاباً خطياً يبيّن عدد العمال المطلوبين، ويتعهّد بموجبه، في حال الغش أو التلاعب، دفع غرامات مالية كبيرة. وثمة فريق عمل في الوزارة يذهب إلى تلك الشركات للتحقّق من وجود العمال بعد وصولهم إلى لبنان". فاللبنانيون - بحسبه – "تعودوا على الاتجار بالبشر". لكن "الحل الذي اعتمدته الوزارة موقت، في انتظار الحلول المستدامة. فليس في الوزارة حاليا سوى 30 مفتشاً للتحقق من التزام الشركات بالعقود ومن وجود العمال. وهذا عدد لا يغطي شارعاً واحداً في بيروت".
تجار الفيزا
النقابي كاسترو عبدالله أفاد أنّ الحيل التي تلجأ إليها شركات التنظيفات (أو "تجّار الفيزا"، بحسبه) للحصول على الموافقة المبدئية من وزارة العمل لاستقدام المزيد من العمّال، هي "إخفاء العامل". فبعد قدوم العامل إلى لبنان وحصوله على الإقامة، تنقله الشركة للعمل مع مؤسسة غير التي استقدم على اسمها. ثم تبلّغ وزارة العمل بفرار العامل لاستقدام بديل عنه. وبعد حصولها على موافقة مبدئية مسبقة وإقامة للعامل البديل، تحضر العامل "المخفي" وتجري له مصالحة في وزارة العمل كي يصبح وجوده قانونياً من جديد.
المسؤول في وزارة العمل أكد هذه الممارسات في السابق، شدّد على أنّ الوزارة أوقفت العمل بعقود المصالحة حالياً. وأوضح: "لا تُمنح شركات التنظيفات موافقة مبدئية لاستقدام عامل بديل، حتى لو أتت بكتاب خطّي من القوى الأمنية، يثبت الفرار. والطريقة الوحيدة اليوم للسماح لأي شركة باستقدام عمال جدد هي وثيقة رسمية من الأمن العام تثبت خروج العامل من لبنان بلا عودة. هذا في وقت لا يحتاج السوق إلى أيدي عاملة، وخصوصاً أنّ مؤسّسات كثيرة تقفل أبوابها بسبب الأزمة الاقتصادية".
..وبوالص التأمين
عن التلاعب ببوالص التأمين الصحي أكّد المسؤول في الوزارة شيوعه، وشدّد على التدقيق التفصيلي بملفات العمال حالياً، فبات من الصعب على الشركات اللجوء إلى الاحتيال.
رغم هذه التأكيدات، لفت النقابي عبد الله إلى أن وسطاء التأمين ما زالوا يلجأون إلى استخدام بوالص من خارج نظام "الأونلاين". وروى حادثة حصلت معه شخصياً: قام مكتب الوساطة بكتابة بوليصة تأمين لإحدى العاملات، بخط يده وبسعر زهيد جداً قياساً إلى سعر السوق. علماً أنّ هذه الحادثة حصلت بعد أسبوع من حديثنا مع المسؤول في وزارة العمل. وهذا يؤكّد أنّ تسجيل أكثر من عامل على بوليصة واحدة ما زال سارياً.
وليد حسين - المدن