هل تقترب موازنة 2020 من حقيقة أن النمو الاقتصادي وفرص العمل هو مفتاح علاج الأزمة المالية والضغوط النقدية؟ وهو قاعدة احتساب العجز إلى الناتج المحلي. ليست الشكوك التي أحاطت بأرقام موازنة 2019 حيال التزام تقديرات العجز بنحو 7.5 في المئة في نهاية السنة جاءت من عدم. بل ولأن كل القاعدة التي بني عليها تقدير العجز المرتقب، مرتبطة عضويًا بتحقيق النمو الاقتصادي. فمن الطبيعي أن إيرادات الموازنة تتصل بأرباح الشركات، وحاصل ضريبة القيمة المضافة، وعائدات الجمارك، والهاتف الخلوي، وكل الضرائب والرسوم على المعاملات العقارية وسواها.
تعديل المسار
لكن تعديل مسار الركود الاقتصادي الواقع في أسر خفض العجز المالي ومخاطره المتعددة الجوانب، يحتاج أولًا إلى استعادة ثقة مفقودة في الحكم والحكومة والمؤسسات. هذا هو الفيصل في مسار النمو وخفض العجز وتوازن الموازنة. حين تستعصي الموارد الكبيرة المشروعة، وحقوق الخزانة العامة والموازنة على الجباية من دوائر التسلط السياسي على المال العام، ونذهب إلى الموارد الأقل أهمية والموجعة، سواءٌ من الرواتب وأنظمة التقاعد والرسوم والضرائب غير المباشرة، فلا نفعل الكثير لخفض العجز. نفعل الكثير لفقدان ثقة المواطن بدولته. والعكس صحيح، عندما يرى المواطن أن الدولة جادّة في تحصيل حقوقها وفقًا لمقتضيات الدستور والقوانين، وتضع حدًا للعصيان المالي على الدولة، تكتسب الأخيرة ثقة المواطن، وتبدأ خطوات حثيثة في مسار التوازن المالي وفي توزيع أعباء الخروج من الأزمة بعدالة. هذا لم يحصل في موازنة 2019. ولا يمكن أن يشكل الأرضية الملائمة لموازنة 2020. السبيل إلى النمو وفرص العمل، المتلازم بالضرورة مع خفض العجز المالي، يستدعي بعد ما سبق ذكره، تحقيق فائض أولي محسوس في الموازنة من خارج خدمات الفوائد على الدين العام. ويضع قدمًا على طريق الخروج من الأزمة.
أولويات الخروج
هناك معضلة بنيوية لترتيب أولويات الخروج من الأزمة حاليًا. إرتباك القرار والمالي والنقدي، وترك الاقتصاد الراكد يتصرف بالقضاء والقدَر من دون رؤية اقتصادية شاملة ومنسّقة. وكل ذلك في بيئة سياسية طاردة الاستثمارات. إقتصاد قائم على القطاع الخاص، تكاد الدولة تتحول فيه المنفق الأكبر. ويتغذى الركود من فاقد نمو اقتصادي يقدره صندوق النقد الدولي بنحو 23 في المئة حدًا أدنى. واقتصاد موازي أكبر من فاقد النمو، لا سجلات له، ولا قيود ولا إيرادات تُجبى. مؤسسات صناعية وتجارية واستهلاكية ضخمة تعرض عن توظيف اليد العاملة اللبنانية. ينزعج الصناعيون من سياسة الإغراق التي يواجه المنتج اللبناني. فتتداعى الدولة لتوفير الدعم للصناعيين. فالإضافة إلى تسعيرة كهرباء مخفوضة فترة المساء. و50 في المئة ضريبة مخفوضة على الصادرات الصناعية. وقروض مدعومة وحوافز، تأتي الرسوم على سلع مستوردة بدعوى المنافسة والإغراق والحدّ من العجز التجاري وعجز ميزان المدفوعات. وكلها من مال الخزانة والمكلّف اللبناني. ولا يستدعي توفير فرص العمل للبنانيين أي اهتمام. مليارات الفاقد من العمالة الأجنبية تتسرب إلى الخارج. بينما تتراجع القوة الشرائية لأصحاب الدخول المحدودة، وتتفاقم الأزمة المعيشية.
وزير العمل لا يُشرك في خطط دعم الصناعيين. ولا يوضع أي شرط لربط الدعم الصناعي والقروض المدعومة من المال العام بفرص عمل للبناني. وهو عرضة للعمالة الإغراقية المجحفة أكثر من الصناعي. وتدور معركة فرض الرسوم بين الصناعيين وبين التجّار. والعارفون بواقع النموذج الاقتصادي يدركون أن الخيط رفيع جدًا بين الفريقين. وليس من يسأل عن العمّال اللبنانيين. ولا يقيم الخطاب وزنًا للبطالة ومسارب العملة الصعبة إلى الخارج. والبطالة والتضخم مؤشران رئيسان إلى العافية الاقتصادية في الاتجاهين. ولا تتسع مناقشة موازنة 2019 في مجلس النواب إلى مطالعة واحدة أو موقف من نائب إلى هذه المشكلة. يتعاطون مع العاطلين من العمل إمّا زبائن سياسيين يمكن تطويعهم بالطائفة والمذهب، وإمّا ناقمين على النظام ولا يشتركون في الانتخابات النيابية. هذا ليس نتاج تركيبة الحكم والحكومة الطبقية فحسب، بل وتدميرٌ للبنية الاجتماعية والعقد الاجتماعي في البلد. وحضٌ للشباب الكفيّ علميًا ومهنيًا على الهجرة. في اختصار استنزاف للموارد البشرية، ذُخر النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والسياسي.
ليس في وُسع دولة مشرعة الحدود على التهريب والعصيان المالي، وعلى التلاعب بفواتير المنشأ في المنافذ الجمركية، وبالكشف على نوعية البضائع والسلع المستوردة، فرض رسوم حماية للانتاج الوطني. تفعلها الدول القوية غير آبهة مثل أميركا ترمب. مهزلة أن يصدر قرار غَلق المعابر مع سوريا عن مجلس الدفاع الأعلى ولا ينفذّ. كيف تريدون بناء الثقة مفتاح النمو والتوازن المالي ودرء الضغط النقدي؟ نسأل ولا ننتظر إجابة. ليتكم تخففون فقط من الثرثرة السياسية!
ضبابية قانون الشراكة
على ذمة مصادر حكومية أفادتنا بأن إدارة مؤتمر سيدر راضية عن موازنة 2019. مع ذلك نعتقد أن الأخيرة تنتظر موازنة 2020 لتقرر موقفها من الإفراج عن التعهدات. وتعول على الشروع في خطة الكهرباء، عار لبنان الأبدي. لن نراهن لا على سيدر ولا على غيرها، رغم أهمية الحصول على التمويل لمشاريع البنبة التحتية. الأموال لا تصنع ثقة. الثقة تصنع الأموال والنمو. لا جدال في ضرورة جذب القطاع الخاص لإشراكه في مشاريع البنية التحتية. لنكن صرحاء، ما يصح على الدولة الهشّة العاجزة عن جباية إيراداتها وحقوقها، يصح على الإدارة السياسية المولجة بإشراك القطاع الخاص في المشاريع الحيوية. المال موجود لدى القطاع الخاص ولا غنى عنه بعد جمود الاستثمارات والتسليفات المصرفية حتى المدعومة للقطاعات الانتاجية. ولا بدّ من تعبئة كل الموارد المتاحة في مشاريع القيمة المضافة، وركائز النمو وفرص العمل. بيد أن الأمر يتوقف على الادارة السياسية في سياق الشراكة مع القطاع الخاص. ما لم يتوضح بعد، هل قانون الشراكة (PPP) يطلق يد الحكومة في المشاريع، أم يحتاج كل مشروع إلى قانون جديد؟ هل الأمر يقتصر على المراسيم التطبيقية؟ هل الحكومة والحكم والمؤسسات جاهزة لمثل هذا المسار الاقتصادي المهم؟ وفي أي اتجاه؟
إلى الثقة نعود. البيئة السياسية المتنابذة على كل شيء، ليست جديرة بقيادة مسار تلزيم مشاريع حيوية بيعًا أو شراكة موقتة أو دائمة أو إدارة. فهي حيازات صلبة وثمينة للدولة، أريد لها أن تكون خاسرة في "جمهورية لبنان القوي" خلافًا لما هي عليه في ديار الكوكب.
عصام الجردي - المدن