الصور القليلة الآتية من واشنطن توحي لنا بالقلق والجدية اللذين يلازمان وجه الرئيس سعد الحريري. اللقاءات التي عقدها في الولايات المتحدة الأميركية تبدو وكأنها محطة صعبة في العلاقات بين لبنان وواشنطن. بل يمكن اختصار الزيارة أنها أشبه بفرصة أخيرة لرئيس الحكومة، وربما "إنذار" أخير للرئيس ميشال عون، لتجنب ما هو أسوأ في المرحلة المقبلة. فالأميركيون جادون بسياستهم التي يريدون تكريسها في لبنان، والقائمة على مبدأ إبعاد حلفاء حزب الله عنه قدر الإمكان، لجعله عارياً بلا غطاء.
تغيير المسار
وهذه السياسة الأميركية تندرج ضمن مسار بعيد المدى. وكانت أولى الإشارات قد تلقاها وليد جنبلاط وعبّر عنها بما قاله في مسألة مزارع شبعا، والتي استفزت حزب الله، وقرأ فيها الحزب تغيرّاً في اللهجة الدولية تجاه لبنان. والإشارة الثانية برزت أخيراً في الخلافات المتراكمة بين قائد الجيش والوزير جبران باسيل. الأمر الذي تضعه بعض الأطراف في خانة بروز قائد الجيش في الاهتمامات الأميركية. وقبل كل شيء كان الأميركيون يعتبرون الحريري حليفهم. فعندما أُبرمت التسوية الرئاسية في لبنان، وجدوا أنفسهم ممثلين بالحريري. إلا أن ما حدث فيما بعد أظهر ضعف التأثير الأميركي لصالح تعزيز سيطرة حزب الله.
ولذا، يعمل الأميركيون اليوم على تغيير هذا المسار. فعندما وافقوا كما السعودية على التسوية الرئاسية، كان ذلك مشروطاً بتكريس التوازن في لبنان، ومقابل تعهد الحريري باستقطاب عون إلى المعسكر المخاصم لحزب الله وإيران، أو بالحد الأدنى أن يكون على مسافة متوازنة بين الطرفين. كانت التسوية تقتضي إما أن يكون عون أقرب إلى المحور الأميركي السعودي، أو على الأقل في الوسط. لكن الذي غيّر القناعة الدولية هو تصريح عون لجريدة "الأهرام" والذي دافع فيه عن المقاومة وحزب الله. وعندها بدأ التراجع في العلاقات السياسية بين واشنطن وبيروت، ثم جاءت أزمة الاستقالة من الرياض ليتبين عمق التباعد بين الواقع والمرتجى. وأبلغ الأميركيون المسؤولين اللبنانيين، برسائل عديدة، أنهم صبروا على ما تعهد الحريري تحقيقه لثلاث سنوات، ليتبين أن نفوذ حزب الله هو الذي يزداد، وأن لبنان يبتعد عن الولايات المتحدة أكثر فأكثر.
معاقبة العونيين
يدرك الأميركيون أن الحريري غير قادر على تغيير المعادلة القائمة. ولهذا، باتوا يمارسون الضغط على عون عبر رئيس الحكومة. أي وكأن الحريري سيتحول إلى صندوق بريد حامل للرسائل، إلى الحزب وإلى رئيس الجمهورية. الأميركيون يريدون من حزب الله أن يتواصل معهم. أما عون فيريدونه إلى جانبهم، وإلا سيكون المقربون منه معرضين للعقوبات. وهذه قضية أساسية في مباحثات الأميركيين مع الحريري. يطلبون منه الضغط على عون لاستعادته إلى الوسط. وفي حال لم يتحقق ذلك، فهناك جملة من الأسماء التي ستدرج في قائمة العقوبات. وقد أُلقي على مسامع الحريري بعض الأسماء.
سلاح العقوبات هذا سيكون له تأثير كبير في الوسط المسيحي، خصوصاً أن ثروات وأعمال تلك الشخصيات المرشحة للمعاقبة مصدرها إما الغرب أو دول الخليج. وهذه المسألة ستدفع المسيحيين إلى الإنفضاض من حول رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحرّ. وغاية الأميركيين من هذه الضغوط هي إنفضاض اللبنانيين من حول حزب الله، بهدف عزل الحزب ومحاصرته، تمهيداً لفتح الحوار المباشر. وتعلم واشنطن أن الملفات التي تهمها في لبنان والمرتبطة بسوريا وإسرائيل متصلة بحزب الله، الطرف الأقوى والأكثر تقريراً فيها. ولذلك، تهدف كل هذه الضغوط والعقوبات لإجبار حزب الله على القبول بالتواصل المباشر مع الإدارة الأميركية.
الحدود والنفط
والملفات الأساسية التي يريد الأميركي إدارتها وتسويتها، هي ترسيم الحدود وضمان أمن إسرائيل. كما يريد أن يكون ممسكاً بشكل كامل بملف النفط وإنتاجه والتنقيب عنه. للوصول إلى ذلك، عملت واشنطن على تكثيف الضغوط، في محاولة منها لإبعاد حلفاء الحزب عنه. وأكثر ما يهم الأميركيين من هؤلاء الحلفاء هم المسيحيون. وبالتالي، التلويح بتهديدات وعقوبات عليهم سيجعلهم قوة ضغط على الحزب، لدفعه إلى الدخول في هذا الحوار.
وهذا ما تبين مباشرة أو تلميحاً في لقاء الحريري مع الوزير مايك بومبيو. فقد أكد الحريري بعد اللقاء إلتزام لبنان بالمفاوضات بشأن الحدود البرية والبحرية، شاكراً الدعم الأميركي للقوات المسلحة اللبنانية ومشدداً على الإلتزام بمكافحة الإرهاب.
وأشار الحريري إلى أننا "ننتظر الوصول إلى قرار نهائي في الأشهر المقبلة في مفاوضات الحدود، كما في موضوع "سيدر" ونتابع دعم هاتين المبادرتين اللتين تعززا الاستقرار في لبنان".
من جهته قال بومبيو:"أكدنا التزام أميركا لمستقبل جديد للبنان ودعم المؤسسات الللبنانية للمحافظ على أمن واستقرار لبنان وتوفير احتياجات الشعب اللبناني".
ورحّب بومبيو "بالالتزام الذي قدمه لبنان لتوفير المساعدة واستقبال النازحين السوريين"، مشدداً على "أن لبنان دولة مهددة من إيران ومن يقوم نيابة عنها حزب الله"، وأبدى امتنانه "لموقف الحريري في متابعة النقاط المتبقية، المتعلقة بالخط الأزرق والحدود البحرية، آملا في رؤية نتائج حسية لهذه المفاوضات،" وأبدى "استعداد واشنطن للوساطة في قضية الخلاف البحري بين لبنان وإسرائيل".
بالمحصلة، هناك خيط رفيع يفصل بين العقوبات بهدف القطيعة، والعقوبات بهدف تحقيق التفاهم والتواصل والتنسيق. ومعروف أن الأميركيين يذهبون بعيداً في تهديداتهم وتصعيدهم وصولاً إلى التلويح بشن حروب عسكرية، بغية تحقيق هدف واحد هو إرساء الشراكة مع القوى التي يتعارضون معها. هذه تجربة حدثت مع الصين وروسيا، ومع سوريا حافظ الأسد، وتحدث الآن مع إيران، وستحدث مع حزب الله.
الغاية الاستراتيجية الأميركية هي الوصول إلى "علاقة" مع الحزب، يتم من خلالها الاتفاق على ربط النزاع وفق قواعد وأسس توفر مصلحة الطرفين. وفي خضم "التفاوض" هذا، لدى الحزب سلاح قوي هو قوته العسكرية وقاعدته الشعبية اللبنانية وامتداداته الإقليمية. أما عون، فلديه أيضاً سلاح فعّال بما يمثله مسيحياً، وامتداداته الإقليمية وفق مبدأ تحالف الأقليات أو "التحالف المشرقي" الذي ربما يلتقي مع واشنطن بحقبتها الترامبية، ومع سياسات اليمين الشعبوي والمحافظ في الغرب.
منير الربيع - المدن