كان صادماً وحاسماً البيان الأميركي الذي أصدرته السفارة، كقول فصل في أزمة الحكومة وحادثة الجبل. وبات مؤكداً أنه لولا هذا "التدخل" الأميركي القوي، لما تم حلّ هذه الأزمة على نحو مفاجئ وسريع. صحيح أنها انتهت بما يحقق انتصاراً لوليد جنبلاط، إلا أنها – على الأرجح - مجرّد جولة في مسلسل جولات التجاذب الإيراني الأميركي في المنطقة، والذي يطال لبنان مباشر ومداورة. وبالتأكيد، ما سُجل لجنبلاط سيقابله ردّ من الطرف المقابل في المرحلة المقبلة. فصحيح أن الأزمة انحلت بعد شهر وعشرة أيام من نشوبها، لكن ذيولها وتداعياتها السياسية ستبقى مستمرة. خصوصاً أن ما فرضه الأميركيون، سيلاقيه ردّ إيراني، ومن حزب الله في لبنان أيضاً.
لهجة هيل الشديدة
على أي حال، كان التدخل الأميركي مغايراً لنمط التعامل الأميركي مع لبنان في السنوات الأخيرة. ويتأكد هذا الانطباع بعدما كشفت مصادر متابعة أن "بيان السفارة" استبقته جولة اتصالات أجراها مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ديفيد هيل مع المسؤولين اللبنانيين، من بينهم رئيس الحكومة سعد الحريري، ووزير الخارجية جبران باسيل. وحسب ما تكشف المعلومات، فإن هيل كان شديد اللهجة مع المسؤولين، منبهاً إياهم رفض واشنطن للمسار الذي تنتهجه السلطة في التعاطي مع حادثة الجبل. كما أبلغهم رسائل بالغة الأهمية برفض محاولات تصفية الحسابات، لا سيما مع وليد جنبلاط. وهناك من يلخّص ما جرى بجملة واحدة مفادها أن "جنبلاط خطّ أحمر". هذه الرسالة التي تضمّنت إشارات تحذيرية أميركية، هي التي دفعت مختلف القوى إلى البحث سريعاً عن حلّ للمشكلة، عبر المصالحة، بدلاً من استمرار الضغط بالقضاء، وتوظيفه لخدمة السياسة، وفق التعبير الذي استخدمه بيان السفارة الأميركية.
وتكشف المعلومات أيضاً، أن اتصال هيل بالمسؤولين اللبنانيين، استكمل بتحرك بعيد من الإعلام للسفيرة الأميركية، اليزابيت ريتشارد، التي أبلغت أيضاً رسائل بالغة الدقة والوضوح. وهذا يؤشر إلى أن واشنطن تقول للبنانيين، إنها لم تتخلَ عن لبنان، وهي ليست في وارد الانسحاب منه، ولو كانت كل أجواء المنطقة تشير إلى انسحابها أو تراجعها. خصوصاً أنها تعمل على إنشاء أضخم سفارة لها في منطقة الشرق الأوسط على الساحل اللبناني.
مساءلة الحريري
جاءت المصالحة قبل أيام من توجه الرئيس سعد الحريري إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث سيعقد فيها لقاءات عديدة مع وزير الخارجية مايك بومبيو، الذي كان يتابع بشكل خاص الأوضاع اللبنانية في ضوء الأزمة التي كانت تخيم على لبنان. كما سيلتقي ديفيد هيل، وهو الذي يتسلم الملف اللبناني بكل تفاصيله. وهنا تكشف المصادر أن الحريري سيكون أمام أسئلة أميركية عديدة، تتعلق بالتسوية ومسارها وطريقة إدارتها، على قاعدة أن واشنطن ستقول للبنانيين أن ليس بإمكانهم الابتعاد عنها، طالما أن قراراً واحداً من قبلها يؤدي إلى انهيار لبنان، أو أي إجراءات عقابية ستؤدي إلى ضرب الاستقرار النقدي والمالي فيه. ولذلك لا بد لهم من الحذر.
ولا يخفى التنسيق الأميركي مع المملكة العربية السعودية، إزاء الملف اللبناني. إذ سيواجَه الحريري بجملة أسئلة أميركية منسقة مع السعودية حول الوضع اللبناني، وإعادة التوازن السياسي في لبنان، والحفاظ على الطائف، وضرورة عدم تقديم المزيد من التنازلات، وأن الأميركيين لن يسمحوا للبنان بأن يقع بكامله تحت سلطة حزب الله.
في المقابل هناك وجهة نظر تفيد أن ما يريده الأميركيون في لبنان هو الحفاظ على التوازن، لإبقاء منطق الشراكة بينهم وبين الإيرانيين على الساحة اللبنانية، مشابه تماماً للشراكة بينهما في العراق. ولذلك، تتدخل واشنطن لأجل تحقيق هذه الشراكة، وليس بهدف الخروج على الأمر الواقع، الذي استطاع الحزب فرضه على المجريات اللبنانية.
توازن النفوذ
ما تقوم به واشنطن إذاً لا يهدف إلى إلغاء تأثير حزب الله في السياسة اللبنانية ومجرياتها، بل إلى التواصل والتنسيق والشراكة. وهذا الطريق تحاول واشنطن فتحه بواسطة الضغط عبر العقوبات أو غير العقوبات، وعلى قاعدة توازن النفوذ بينها وبين طهران. فكما هي لا تريد إسقاط النظام الإيراني بل إبرام اتفاق معه، كذلك لا تريد مواجهة حزب الله بقدر ما تريد التشارك معه. وفي هذا الإطار تفيد بعض الأجواء الأميركية أن هناك الكثير من المقومات التي يمكن الإرتكاز عليها في تكريس هذه الشراكة، خصوصاً أن الحزب هو الطرف الأقوى، والقادر على الالتزام بأي اتفاق مباشر أو ضمني يمكن أن يُبرم معه، بخلاف كل القوى السياسية الأخرى.
عقوبات جديدة!
عندما لجأت واشنطن إلى التصعيد، بلهجتها وبياناتها، فيما كانت غائبة سابقاً عن الساحة اللبنانية، فسرّ البعض أن الخطوة الأميركية كانت تنتظر تحركاً لبنانياً اعتراضياً، يتمرد على الأمر الواقع السائد على الأقل منذ اتفاق الدوحة. وعندما وجدت جنبلاط يرفع لواء الاعتراض والمواجهة لجأت إلى دعمه. وهنا، يربط أصحاب وجهة النظر هذه بكلمة أبلغها المسؤولون السعوديون لرؤساء الحكومة السابقين، أن على اللبنانيين أن يساعدوا أنفسهم، وبعد تحركهم سيلقون الدعم. لكن اللبنانيين أيضاً خبروا الأميركيين، وأصبحوا في خشية من الإنجرار خلفهم - كما حصل سابقاً - فيجدون أنفسهم مخذولين مجدداً، خصوصاً أن ثمة قناعة مفادها أن واشنطن تطمح باتفاق مع إيران وحسب. وهي تمهّد الطريق له من خلال هذه العقوبات، التي ستتوسع أكثر في لبنان، وستطال قوى لبنانية متحالفة مع حزب الله. وهو الأمر الذي سيحاول الحريري ثني الأميركيين عنه خلال زيارته، لقناعته الراسخة لبنانياً أن واشنطن في النهاية ستعود إلى التفاوض مع إيران، وستعود شريكة مع حزب الله بشكل غير مباشر في تقرير المصير اللبناني، تماماً كما كانت التسوية الرئاسية نتاجاً لاتفاق أميركي إيراني.
منير الربيع - المدن