طرقت السفارة الاميركية في بيروت عبر البيان الذي أصدرته عن وجوب عدم تسييس القضاء في التحقيق في حادثة قبرشمون "بيدها على الطاولة" وفق التعبير المحلي، أي انها وجهت تحذيرا مهما لاسلوب السلطة في التعامل القضائي مع حادثة قبرشمون، فلقي موقفها اعتراضات، ولا سيما من طرفين يعتبرهما سياسيون معنيين بهذا البيان: أولهما الوزير جبران باسيل، ولو ان الموقف صدر عن مصادر وزارة الخارجية اعتراضا على ما اعتبرته تدخلا خارجيا في شؤون القضاء، والآخر هو كتلة "الوفاء للمقاومة" التي جاء في بيانها المعنى نفسه ازاء ما اوردته السفارة في بيانها عن ادانة التدخلات الاجنبية ايا كانت في الشأن الداخلي، كما جاء في موقف الكتلة. وقد يكابر البعض في اعتبار ان الموقف الاميركي لم يفعل فعله لكن الحركة نشطت بعد يوم في اتجاه إعادة تأمين اجتماع مجلس الوزراء بعد طول انقطاع على أثر لقاء بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، ومعهما مدير الامن العام اللواء عباس ابرهيم. فالولايات المتحدة، في ظل الضغط الذي تمارسه على ايران في موضوع الملاحة في الخليج والتي تصل الضغوط الاميركية في شأنها الى وضع المزيد من العناصر الداعمة للحزب على لائحة الارهاب، لن ترغب في ساحة صراع جانبية في هذه المرحلة تحيد الانظار عن الضغوط الجارية في المنطقة في ظل ما يظهره سياسيون من اقتناع بأن التصعيد الداخلي قد لا يكون محضا داخليا ولو ان للاطراف المحلية مصالحهم المباشرة وصراعاتهم الشخصية، لكن قد يكون لبنان يستخدم كساحة انشغال للدول المهتمة باستقراره وعدم انهياره، فيما تدفع الاهواء السياسية الجارية بقوة في هذا المنحدر. والموقف الاميركي عبّر عن عدم ارتياحه الى مسار التحقيقات القضائية واستخدام الملف لاهداف سياسية، وكانت واضحة كليا في هذا الاتجاه، علما انه ليس وحده المعني بهذه الاعتبارات، بل ان مجموعة من الدول الاوروبية تشاركها ايضا الموقف نفسه، علما ان الموقف الاميركي يشكل قاطرة تجرّ وراءها الموقف الغربي عموما، وخصوصا في ظل وضع اقتصادي لا يبدو القيمون على السلطة في لبنان مهتمين به بالمقدار الذي يعبر عنه رؤساء البعثات الديبلوماسية، أقله من حيث الاداء التصعيدي والمتوتر. وازاء المخاوف من ساحة انشغال جانبية دخل فيها على الخط رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وكان سبقه اليها "حزب الله" من حيث تضخيم حادثة كانت مؤلمة ولها حيثياتها، يغدو القلق مبررا ازاء التوظيف السياسي وفق ما اشار البيان الصادر عن السفارة، بما يفيد عملانيا ان كسب فريق 8 آذار معركة كسر وليد جنبلاط من خلال تحوير الوقائع والتحقيقات القضائية لمصلحة محلية واقليمية ايضا، وكذلك كسر من وقف معه من أفرقاء من قوى 14 آذار سابقا يمكن ان ينقل لبنان الى مرحلة اخرى لا يختل فيها التوازن المختلّ أصلا بنسبة كبيرة، بل يكرّس الواقع السياسي لمصلحة فريق 8 آذار بما يعنيه ذلك عملانيا من انتصار للمحور الايراني على ساحة لبنان، فيما الانظار والاهتمام مشدودة الى ساحات اخرى تستهدف فيها الولايات المتحدة منع تحقيق ايران اي انتصار فيها. واغتيال الرئيس رفيق الحريري على اثر حملات استهدفته وكذلك توجيه اتهامات الى سمير جعجع أدت به الى السجن عادت الى الواجهة اخيرا. هل كان سيدفع استقرار لبنان الثمن؟ وماذا عن الاقتصاد والوضع المالي في ظل تسعير للخلافات لا يقيم اعتبارا اطلاقا لما يطلقه المسؤولون انفسهم على اختلاف مواقعهم من تحذيرات حول هذين الوضعين؟
وان يكون البيان الاميركي بما عناه او بما رمز اليه قد لجم الاندفاعات الداخلية الى استكمال المواجهة راهنا على الاقل، فهو أمر مؤسف ولو استهدف توجيه رسالة اقليمية وليست محلية ايضا انطلاقا من ان لبنان يبقى محتاجا الى اي تدخل خارجي من اي نوع كان للجم الانجرافات فيه سواء كانت داخلية بحت او مدفوعة بحماسة او باعتبارات خارجية. فحتى الساعات الاخيرة الماضية قبيل انتهاء اجتماع بعبدا الذي نفح تفاؤلا بامكان التئام مجلس الوزراء كانت مفاعيل كلمة رئيس التيار الوطني الحر في ذكرى 7 آب تتوالى لجهة اعتبارها خطوة تصعيدية اضافية علما ان كل التوقعات تفيد بان الامور وفق المسار القائم يتجه الى مواجهة مفتوحة. ذلك انه الى جانب استمرار التصعيد الاقليمي وانعكاساته في شكل او في اخر على لبنان، فان معركة الرئاسة التي فتحت لن تنتهي غدا، بل على العكس من ذلك، فضلا عن ان في الافق القريب موعد تلاوة رسالة رئيس الجمهورية الى مجلس النواب عبر رئيس مجلس النواب، ويخوض رئيس الجمهورية عبرها معركة المناصفة في كل الوظائف لتشمل كل الفئات، لا الفئة الاولى وحدها. فهذه المعركة ينوي من خلالها التيار العوني شد العصب الطائفي لمصلحته، مع نية إحراج الاحزاب المسيحية الاخرى والشخصيات المستقلة للاصطفاف خلفه من أجل "تفسير" المادة 95 من الدستور او تعديلها وفق ما اعتبر دستوريون ان الهدف من التفسير. فحتى الآن كان المسيحيون في المعركة التي خاضها أفرقاء 8 آذار ضد جنبلاط الى جانب الاخير، لكن المرحلة المقبلة ستنطوي على محاولة اعادة الافرقاء المسيحيين الى قضية طائفية مسيحية بحتة، فإذا اصطفوا خلفه كان مكسبا قويا له واذا لم يفعلوا ويميزوا انفسهم بالمقاربة الدستورية او بمقاربات اخرى سياسية رافضة لتعديل اتفاق الطائف لان النقاش في المادة 95 قد يفتح علبة باندورا لان الافرقاء المسلمين لن يقبلوا اي تفسير تعديلي للمادة، فإن المواجهة ستستعر أكثر.
روزانا بومنسف - النهار