("أفق حجري وسماء حجرية"، محمد العبدالله في قصيدته الطويلة في حروب لبنان: "الفصل الأول من مصرع دونكيشوت").
تعوّدت القبائل اللبنانية، وتعود زعماؤها ومشايخها جميعاً، على الاستمرار في منازعاتهم وثاراتهم ومناكفاتهم وحروبهم، حتى تملّ القوى الدولية والإقليمية منها ومنهم، فتعمد إلى إرسال مبعوثيها للتوسط بينهم لإيقافها. ويبدأ منجّمو مصادر زعماء القبائل في تحليل التدخل الدولي وتأثيره عليهم.
هذا ما فعله اللبنانيون في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، طوال فصول حروبهم الأهلية - الإقليمية المديدة، بالوكالة عن دول وقضايا ومنظمات لا تحصى، وبالأصالة عن أنفسهم أيضاً.
وكان ما كان.. حتى هروب العماد ميشال عون من القصر الجمهوري إلى السفارة الفرنسية، في أثناء قصف طيران حافظ الأسد السوري القصرَ وتدميره. وكان الأسد قد أمضى سنوات تسلّطه العشرين الأولى على سوريا، راعياً أساسياً لحروب القبائل اللبنانية والفلسطينية ومنظماتها المتناسلة، وأمضى سنواته العشر التالية (التسعينات) يدير شؤون القبائل وزعمائها بواسطة ضابط أمني، يستدعي من يشاء منهم إلى مقر إقامته في عنجر البقاعية أو البوريفاج في بيروت. فيؤنب هذا أو ذاك، ويفعل به ما يراه مناسباً. ومنهم من كان لا يفعل شيئاً إلا بإمرة ذلك الضابط الأمني، ومنهم كان يزحف زحفاً إلى مقره ليقدم له آيات الطاعة والولاء، ومنهم من كان يعلم ما الذي يريده ويرغبه الضابط أكثر من الضابط نفسه. وفي معظم الأحيان كان ضابطهم ذاك يداوي ضغائنهم وثاراتهم بالتي كانت هي الداء، فيصرِّفها بينهم متى أراد، وبمقاديرَ يجيدُ التلاعب بها وبهم، ثم يطفئها بمقادير، ومتى أراد وشاء..
وكان ما كان، وجرى ما جرى.
شياطين السفارة
وأمس، حين أذاعت سفارة الولايات المتحدة الأميركية بياناً تدعو فيه القبائل اللبنانية وزعمائها إلى أن يعودوا إلى رشدهم، ويكفّوا عن استعمال الحادثة الثأرية الصغيرة في قبرشمون لبعْثِ ضغائنهم وثاراتهم الأهلية والقبلية الكبيرة المؤجلة، ثار الحزب الخميني الإيراني المسلح في لبنان ثورته المعتادة على شيطانه الأكبر وسفارته، وأطلق حملة شعواء من التهديد والوعيد، مذكراً ذلك الشيطان بما فعله عمادُه العسكري والأمني والسري بسفارته في بيروت سنة 1983. ذلك أن حزب حروب الحرس الثوري الإيراني في المشرق، والمنتصر على شيطانه الأكبر وأذنابه وسفاراته في لبنان وسوريا والعراق واليمن، صار يعتبر أنه طليق الإرادة والسلاح في هذه البلدان.
ففي لبنان رئيس للجمهورية أوصله الحزب الخميني الحرسي الإيراني إلى سدتها في انتخابات برلمانية "شرعية"، وأقرَّ زعماء القبائل اللبنانية جميعاً بشرعيته، ولو على مضَضِ البعض منهم. والرئيس "الشرعي" إياه، حرٌّ طليق في تصريف شؤون الجمهورية وإدارتها "ديموقراطيا"، ولم يعد يحتاج إلى سفارات تنصحه وتسدي إليه الرأي والمشورة. فهذه كلها (النصيحة والرأي والمشورة) صارت في يد الحزب إياه، وارث دور ضابط حافظ الأسد الأمني، وابنه ووريثه، في جمهورية القبائل اللبنانية.
حنين إلى الحرب
أما رئيس جمهورية القبائل هذه، فلولا بقايا إجراءات بروتوكولية متقادمة لا تزال تقيّد شكلياً منصبه، ولولا ذلك القيد الثقيل الذي جعل رئاسته رهينة "المربع الأمني" السري في حارة حريك؛ لما غالب حنينه الجارف إلى ارتداء بذلته العسكرية الجنرالية القديمة، والخروج إلى شرفة القصر الجمهوري منادياً "شعب لبنان العظيم" لتحرير الشوف من نفوذ الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، بعدما أيقن الرئيس أن حادثة قبرشمون دُبّرت لاغتيال صهره وزير الخارجية، أثناء زيارته الشوف وعاليه لاستنهاض همة المسيحيين هناك لاستعادة حقوقهم السليبة في الحروب القديمة.
وفي مغالبة الرئيس حنينه ذاك، ربما فكّر بدعوة صهره الآخر، شامل روكز، إلى أن يحذو حذوه، ويفعل مثله، ويلاقيه في سوق الغرب أو شملان، اللتين منهما دافعا معاً عن شرعية الرئاسة وقصرها الجمهوري في حرب الجبل الثانية، منتصف ثمانينات القرن العشرين.
وكان ما كان وجرى..
الشرعيّة قناعاً
والحق أن كلمة الشرعية هي قناع لاهوت "العونية" العسكري والسياسي الخلاصي، منذ اختار قائد "القوات اللبنانية" الأول والمؤسس بشير الجميل، الضابط ميشال عون ليكون أحد خلَّصه في الحلقة الضيقة والأقرب إليه في التخطيط والعمل لصعوده الحربي الصاعق إلى سدة الرئاسة الشرعية في القصر الجمهوري، منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي. لكن ذلك الصعود سرعان ما انجلى عن فاجعة اغتيال "المخلص" بعد أيام من انتخابه رئيساً في ثكنة عسكرية، وقبل تسلّمه مقاليد الرئاسة في القصر الجمهوري.
وآلت الرئاسة إلى أخ الرئيس القتيل، أمين الجميل. وفي عهد الجميل الأخ البديل، تابع العماد عون لاهوته العسكري الخلاصي في الدفاع عن الشرعية.
وفي يوم عصيب من نهاية عهده الرئاسي عام 1988، رفض ديكتاتور سوريا الدموي حافظ الأسد التجديدَ للرئيس أمين الجميل عهده ذاك، وترَكه في حيرةٍ من أمره في ليلة ظلماء، سرعان ما انجلى بدرها: استدعى الجميل قائد جيشه إلى القصر الجمهوري، وعيّنه رئيس حكومة عسكرية انتقالية موقتة، مهمتها سد الفراغ الرئاسي، والحفاظ على الشرعية المهددة بتعذر انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية. وهي كانت جمهورية ممزقة وغارقة في أتون الحروب. ولم يبقَ من شرعيتها سوى سراب لا يبصره سوى أدعياء النبوة في هيكلها المتداعي، أولئك الذين ينتدبون أنفسهم مخلصين، ويتقنّعون بالقداسة والنبوة، وبرميم الشرعية، ويتوسلون الحرب سبيلاً وحيداً إلى التصدر والسلطان على الأشلاء.
وكان العماد عون واحداً من هؤلاء، فأسرج خيوله وجهّز مدفعيته حائراً في أي اتجاه يبدأ قصفَهُ التحريريّ المخلص: أعَلى "القوات اللبنانية" التي كان في دائرة مؤسسها المخلصين، وصار يعتبرها ميليشيا مغتصبة وغاشمة بعد وصوله إلى القصر الجمهوري، أم على الجيش السوري الذي يحتل لبنان؟ وخاض العمادُ حربيه المدمرتين، حتى أخرجه طيران حافظ الأسد وجيشه من القصر الجمهوري...
عود إلى بدء
وكان ما كان، وجرى ما جرى...
وعاد العماد ميشال عون رئيساً لجمهورية القبائل.
لكن كيف يمكن إنهاء هذه الاستعادة الجزئية السريعة لبعض فصول تاريخنا اللبناني، الذي لا يزال مسترسلاً في تناسله بلا هوادة، عوداً إلى بدء الضغائن والثارات والحروب القبلية؟
كلام بلا أفق، في بلد حجري وعالم حجري.
"أفق حجري وسماء حجرية"... وهيهات منا الذلّة.
محمد أبي سمرا - المدن