يُخيَّل للبعض أن ما يحصل في لبنان، على المستوى الاقتصادي عموماً والمالي خصوصاً، ضربٌ من ضروب عدم كفاية الوعي والعلم بقواعد وأصول علم الاقتصاد، ومن خلفه المالية العامة. لكن الحقيقة في مكان آخر، فكل ما يحصل مبَرمَج ويخدم هدفاً أبعد من الفعل الآني الذي يُثار حوله الجدل. وما يتّصل بالجهل في هذا المجال، يرتبط فقط بالجمهور المصفّق لمجموعة من المتحكّمين بخزينة الدولة ومواردها. وبذلك، ينطلق تنفيذ الطبقة الحاكمة لأي مشروع، من أساسين، الأول المساهمة بتجهيل الناس، عبر ضخ كميات من المعلومات المتداخلة والمغلوطة حول المشروع، والثاني هو البحث عن أدوات للتحاصص.
وفي كل الأحوال، فإن تجهيل الناس والتحاصص يتداخلان إلى حد انعدام الحد الفاصل بينهما، فكلاهما مطلوب لتحويل البلاد إلى دكان، وماليتها إلى جارور بلا قفل.
مخالفات شراء مبنى "تاتش"
عرض المخالفات بالوقائع، يوثّقها ويُجنّبها زواريب النقاشات وشياطين تفاصيلها، ويساهم في تقليص نسبة التجهيل، فيما لو أراد الجمهور استقاء الحقيقة. وعليه، فإن عملية شراء مبنى "تاتش" في وسط بيروت، تنطوي على عقد نفقة من مال الدولة. ما يعني إلزامية إدراج العملية تحت مظلة المحاسبة العمومية، قبل نقاش أي أمر آخر.
قانون المحاسبة العمومية يقول بأن الشراء يجب أن يتم عبر صفقة تنافسية، أي عبر مناقصة. أما حالات الاتفاق بالتراضي، فلها شروطها أيضاً. والمناقصة في الصفقة محور النقاش، لم تحصل، ما يضعها في خانة المخالفة الأولى.
المخالفة الثانية هي "عدم عرض معاملة الشراء على ديوان المحاسبة لتنفيذ الرقابة المسبقة"، وفق ما تقوله مصادر قانونية لـ"المدن". والمخالفة الثالثة حسب المصادر، هي "عدم عرض الشراء على إدارة الأبحاث والتوجيه المسؤولة عن تحديد الحاجات". وهنا، تشير المصادر إلى أن "شراء مكتب أو سيارة للإدارات العامة لا يصح إلا بعد المرور بإدارة الأبحاث والتوجيه، وكذلك عملية استئجار العقارات. وإذا كان الاستئجار خاضعاً لعملية تحديد الحاجات، أفلا يكون الشراء خاضعاً حكماً بما أنه حاجة للدولة؟".
المخالفة الرابعة تكمن في تجاوز "المادتين 137 و138 من قانون المحاسبة العمومية اللتان تنصان على عدم دفع قيمة الصفقة إلا بعد تنفيذها". فيما المخالفة الخامسة هي "عقد نفقة دون توفر الاعتمادات اللازمة لها". فالشراء حسب ما يؤكده وزير الاتصالات محمد شقير، تم مقابل مبلغ 75 مليون دولار، دُفِع منها مبلغ 6.4 ملايين دولار، مسبقاً كبدلات إيجار "والمبالغ المتبقية ستدفع على ثلاث دفعات، على أن يكون آخرها عام 2022". والتقسيط يعني أن الاعتمادات غير متوفرة للقيام بتلك النفقة. وهذا ما يستدعي الإضاءة على المخالفة الخامسة وهي "عدم دفع الوزير قيمة الصفقة من ماله الخاص، لأنه رتّب على الدولة نفقات غير موجودة. وهو ما تنص عليه المادة 112 من قانون المحاسبة العمومية". وسادس المخالفات هو ترتيب نفقة من دون موافقة وزارة المالية التي عليها دفع قيمة النفقة. وهو ما استدعى تعليق وزير المالية علي حسن خليل قرار الشراء "حتى يصار إلى البت به وفق القوانين والأنظمة المرعية الإجراء".
بالتوازي مع المخالفات القانونية، غرّد شقير خارج سرب التوجه الحكومي نحو التقشف، وعارَضَ توصية لجنة الإعلام والاتصالات بالتريّث في ما يتعلق بالشراء والإنفاق. فحتى لو كان الشراء نظرياً يقلص الكلفة التي ستدفعها الدولة مقابل الإيجار، إلا أن الواقع يؤكد عدم قدرة الدولة على دفع كلفة الشراء، وبالتالي عليها تحمّل التبعات وليس ابتداع حلول مخالفة للقوانين.
دولة أم دكّان؟
فضيحة الشراء هذه ليست سوى قطعة صغيرة من فسيفساء الفساد في عمليات الشراء والايجار والاستملاك، وكل ما يتّصل باستعمال مالية الدولة من قبل الطبقة السياسية الحاكمة، التي حوّلت الدولة إلى دكّان مفتوح بلا أبواب، وخزينتها إلى جارور رُميَ قفله جانباً. والقفل هو قانون المحاسبة العمومية الذي يحمي المال العام من التضرر خلال مسيرة تداوله.
في هذا الدكّان يُنظر إلى المال الموضوع في الجارور على أنه مال سائب، يمكن التصرف به كملك خاص لمن يدخل الدكّان ويبيع ويشتري على هواه. ولأن الدولة تحوّلت إلى دكّان في شرع السلطة الحاكمة، لم يعد مستغرباً فتح البازار نقداً أو بالتقسيط، والدفع "على التيسير". وفي حال عدم التيسير، يتعاظم دين الدكّان وتزداد الفوائد وتُفرَض الشروط الجزائية... والأجهزة الرقابية غائبة دائماً. فمتى يستقيم الحال؟.
من غير المنظور استقامة الحال قريباً. فكل وزير يتصرف في وزارته كأنها ملك خاص، يصرف ويعقد الصفقات وفق ما يشتهي، والكل يتذرّع بحق عقد الصفقات، وهو حق مشروع للوزارة، ضمن آليات إدارية وقانونية وشروط عمادها ما خالفه شقير ويخالفه نظراؤه، تحديداً في وزارة الطاقة.
خضر حسان - المدن