ربما كان إميل لحود أسوأ رئيس جمهورية في تاريخ لبنان. وربما صحّ الإجماع أن فؤاد شهاب أفضلهم. وقد يكون شارل حلو أرقاهم دماثة وثقافة. فيما سحر كميل شمعون لا تبدده أحداث 1958. وهناك انطباع أن الياس سركيس هو الأكثر استقامة ورصانة، لكنه جاء في أسوأ توقيت. فيما أمين الجميل كان رئيس الحقبة السوداء بلا منازع. بشير الجميل ورينيه معوض قتلتهما الرئاسة بمجرد الوصول إليها. بالطبع، كان "الشؤم" سمة رئاسة سليمان فرنجية. ومع الياس الهراوي، فقد المنصب سطوته. أما عهد ميشال سليمان فهو الأضعف، على الأرجح.
جاء ميشال عون متأخراً 28 عاماً عن موعد طموحه (1988). هو أكثر المرشحين إصراراً على خوض معركة الرئاسة على الإطلاق. صحيح أن رئاسة بشير الجميل أتت تتويجاً لأشد الحروب دماراً (اجتياح 1982)، إلا أن عون أشعل أنواعاً عدة من الحروب، بالنار والمدفعية، "التحرير" و"الإلغاء"، وبالنضال السري (1991- 2005)، ثم شراكته مع ميليشيات "حزب الله" في حرب العصابات والعصيان المدني (خريف 2006، وصولاً إلى 7 أيار 2008) مروراً بحركة "القمصان السود" وصولاً إلى "الفراغ" الدستوري.. وفي الأثناء، أي طوال 28 عاماً، تسببت معضلة وصوله إلى الرئاسة بتعطيل الدولة برمتها، منذ قصف قصر منصور عام 1988 ثم التمنع عن تسليم قصر بعبدا (1989- 1990)، إلى إقفال البرلمان وفرط الحكومات ومنع الانتخابات النيابية والانتخابات الرئاسية، ما مجموعه ست سنوات من التعطيل على أقل تقدير، أي ما يوازي فترة رئاسية كاملة.
وصل أخيراً إلى الرئاسة، وهو يعرف أن انتخابه كان على مضض، بـ"توافق" أو "تسوية" بين فائض قوة حزب الله وفائض "يتم" خصومه. تحقق حلمه بتكلفة من الصعب حصرها ما بين ليلة أمين الجميل العصيبة في أيلول عام 1988، وليلة سعد الحريري الكابوسية في تشرين الأول 2016. وكما قال أحد النواب بفخر واعتزاز: وصل إلى الرئاسة بفوهة بندقية "المقاومة".
حاول كل ما هو ممكن بالسياسة أو بالسلاح لتحقيق حلمه المضني، أن يحمل لقب "فخامة الرئيس". لم يترك وسيلة ولا جبهة إلا وجربها ميشال عون. استطاع في سنة واحدة التصريح بلا تردد أنه مستعد أن يكون جندياً في جيش حافظ الأسد، ثم أنه يريد تكسير رأس حافظ الأسد. قال بحزب الله ذماً ما لم يقله مالك مدحاً بالخمر. قال مدحاً بحزب الله ما لم يقله قيس بن الملوح غزلاً بليلى. حارب الجيش السوري وأعداء الجيش السوري. شارك بانتفاضة الاستقلال وأسرع بالانقلاب عليها. حالف أميركا وعاداها. تحالف مع صدام حسين كما تحالف مع إيران. يصافح الجميع وعلى استعداد للانقضاض على الجميع. فعل كل ما يستطيعه ومهما كان الثمن من أجل تلك اللحظة "المجيدة"، تتويجه سيداً لقصر بعبدا.
ربما بسبب طبيعة طموحه وغايته السياسية المحددة، هو على استعداد لتقليب تحالفاته وخصوماته مع الجميع إلا مع "المنافسين" المسيحيين الموارنة. هؤلاء وحدهم أعداؤه الأبديون.
عندما نتحدث عن الأثمان المبذولة طوال عقود من أجل استحواذه على هذا المنصب، نجد المفارقة أن "شعباً" دفع بكامل الرضى والحماسة الكلفة الباهظة كي يرى قائده في سدة الرئاسة. لقد ضحى فعلاً بكل غال ونفيس ليشهد يوم تنصيبه. وصاحب عبارة "يا شعب لبنان العظيم" وزع تلك العظمة وما زال بسخاء شفوي يعادل كل الكوارث التي نزلت بهذا الشعب. فالزجل في معتقد هذا الشعب يوزن بالذهب. بل هو يعادل الافتداء بحياة الناس وعمرانهم. أكثر من ذلك، فهو بمجرد أن حمل - لفظاً - لقب "الرئيس القوي" حتى تعمم الظن والشعور بالقوة. هذا هو سحر اللغة.
وعلى نحو ما يصيب المرء لحظة وصوله الذروة، إذ تنتابه رغبة المعاودة والتكرار من البداية، يميل الرئيس ميشال عون الآن وقد انصرم نصف عهده، أن يعاود علينا ومعنا، وبصحبة صهره، ذاك الابتداء المرير عام 1988، استئنافاً يكرر تواريخه وويلاته وحروبه من غير كلل.
يوسف بزي - المدن