بعد "تطبيق" اتفاق الطائف بمساعدة من سوريا الراحل حافظ الأسد، وعلى نحو يخدم مصالحها أكثر ممّا يخدم مصلحة لبنان الوطن والدولة والسلم الأهلي والعيش المشترك، بدأت جهات لبنانيّة عدّة تُطالب بتنفيذ أحد بنود الاتفاق المذكور الذي نصّ على دخول الحكومة اللبنانيّة (دولة لبنان) والحكومة السوريّة (دولة سوريا) في مفاوضات من أجل تنفيذ إعادة تموضع للجيش السوري المُنتشر في لبنان وتراجعه نحو البقاع، مع احتفاظه بمواقع استراتيجيّة مُهمّة في "الجبل" العالي مثل منطقة ضهر البيدر وأخرى غيرها يستطيع منها مواجهة أيّ اعتداء اسرائيلي على بلاده من خلال ما سُمّي في حينه "الكوريدور" البقاعي. كما يستطيع الانتقال في سرعة منها إلى الداخل اللبناني في حال اضطربت الحال السياسيّة وتعرّض السلام الذي ترعاه سوريا وتحميه إلى الاهتزاز وعلى نحو خطير. وقد أثار هذا الموضوع في حينه وزير الخارجيّة الأميركي الأسبق جيمس بايكر على ما أظنّ مع الرئيس الياس الهراوي في اجتماع بينهما كانت زحلة ومنزله فيها مكاناً له. لكن جواب الرئيس الراحل كان لا نستطيع مفاتحة السوريّين في هذا الأمر ونترك هذا الأمر لكم. واعتبرت واشنطن في حينه أن موقف لبنان كان تنصّلاً من نصّ رسمي وخوفاً من واقع لا قُدرة له على مواجهته. لكنّها "نفضت يدها" من هذا الموضوع كما يُقال لأن ما بينها وبين سوريا الأسد من تفاهمات في المنطقة في حينه كان أهمّ من الضغط عليها لإعادة الانتشار في لبنان. طبعاً ازدادت المطالبة بالإعادة المذكورة في حينه إعلاميّاً وسياسيّاً ولا سيّما من الجهات غير المؤيّدة لدمشق ودورها في البلاد، فتفتّق ذكاء نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدّام، الذي انشقّ عن خلفه أي ابنه بشّار الأسد بعد بدء الربيع العربي في بلاده عام 2011 وعلى الأرجح قبل ذلك بسنوات، عن موقف يعتبر أن لبنان لا يحقّ له البحث مع سوريا في تنفيذ إعادة التموضع العسكري المُشار إليها. لماذا؟ لأن اتفاق الطائف لم يُطبّق كاملاً كما يُقال، وتحديداً بند إلغاء الطائفيّة السياسيّة وقبله بند تشكيل هيئة وطنيّة تتولّى درس هذا الموضوع وإيجاد الطريقة المناسبة لتنفيذه. علماً أن النظام السوري في حينه لم يكن في وارد إلغاء هذه الطائفيّة لإبقاء الانقسام سائداً، ولإبقاء دولة "الطائف" بثلاثة "رؤوس"، ولإبقاء سيطرته عليها وعلى لبنان وحاجة "شعوبه" إليها "كلّما دقّ الكوز بالجرّة" كما يُقال. علماً أنّه كان يقول لكل من الشعوب الخائفة من إلغاء الطائفيّة: لا تخافي لن نُلغيها. ويومها كان الخوف مسيحيّاً أوّلاً ثم سُنيّاً جرّاء استشعار القوّة العسكريّة الشيعيّة في "أمل" ثمّ "حزب الله" والخوف من تفوّق الديموغرافيا الشيعيّة على الديموغرافيا السُنيّة. وشعوب لبنان "ترقص من دون دفّ". فبدل من أن تباشر شعوب لبنان إلغاء الطائفيّة بعد انسحاب سوريا مُكرهة منه عام 2005 في أعقاب استشهاد الرئيس رفيق الحريري بدأت تعطّل البنود الأخرى في الطائف واحدة بعد الأخرى لمصلحة قادتها ودول خارجيّة عربيّة وغير عربيّة. و"أثمر" فعلها إذ تفكّكت الدولة اللبنانيّة (السورية) التي بنتها دمشق وصارت عاجزة عن القيام بمهمّاتها وعاد الانقسام إليها وربّما تكون اقتربت كثيراً من أن تتحوّل "دولة فاشلة". علماً أنّها وفي كل الأحوال دولة مزيّفة.
لماذا الحديث عن هذا الأمر اليوم؟ لأن وزير الخارجيّة ورئيس "التيّار الوطني الحرّ" وصهر رئيس الجمهوريّة ميشال عون وربّما مرشّحه الأوّل أو الأبرز لرئاسة الدولة بعد انتهاء ولايته ذكّرنا به في الأشهر القليلة الماضية، وتحديداً عندما قال أنّه يصرّ على المناصفة ليس فقط في الفئة الأولى من الوظائف الرسميّة على أنواعها بل في كل الفئات أي من المدير العام المدني والأمني وقائد الجيش العسكري وحاكم مصرف لبنان المركزي حتّى الحاجب أو "البلانتون" كما يُسمّى. وقد برّر ذلك بعدم تشكيل الهيئة الوطنيّة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة معتبراً أن احترام المناصفة في الفئة الأولى فقط يجب أن لا يحصل قبل إلغاء الطائفيّة. وهو يعرف أن الهيئة المذكورة لم تُؤلّف منذ 20 أو 30 سنة، وأن أحداً من شعوب لبنان بقياداتها كلّها لم يُحرِّك ساكناً لتأسيسها ولم يبدُ يوماً مُتحمِّساً أو بالأحرى موافقاً على إلغاء الطائفية. وبذلك بدا أنه يُؤسِّس لتكريس طائفيّة البلاد ومذهبيّة شعوبها بتقسيم الدولة عمليّاً وبجعل الأقوياء في شعوبهم "وُلاة" عمليّاً أو "مقدّمين" كما في القرن التاسع عشر وما قبله. وهذا يعني مصيراً من اثنين إمّا تقسيم البلاد وإمّا العمل لجعل دولتها فيديراليّة ولا سيّما في ظلّ المخاوف المتُعاظمة من أن الفيديراليّة ستكون، بعد التوصّل إلى نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، النظام في العديد من بلدانه وفي مقدّمها سوريا والعراق. وهذا أمر يعرفه باسيل. وفي أي حال يقول واحدٌ من الذين يعيشون في أوساط قانونيّة أنّ "البند ز" من وثيقة الوفاق الوطني (إلغاء الطائفيّة السياسيّة) جاء في آخر الفقرة الأولى منه: "ويتمّ في المرحلة الانتقاليّة ما يلي: أ- إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامّة والقضاء والمؤسّسات العسكريّة والأمنيّة والمؤسّسات العامّة والمُختلطة والمصالح المُستقلّة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يُعادل الفئة الأولى فيها وتكون هذه الوظائف مُناصفة بين المسيحيّين والمسلمين دون تخصيص أي وظيفة لأيّة طائفة"، ويجب أن يعرف الوزير باسيل وجهابذة القانون الذين يستند إلى علمهم الغزير، وهو فعلاً غزير، أن "وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني" ليست بـ"الاتساع" الذي يريدونه بحيث تستعمل لضرب الهدف بل الغاية الأصليّة وهي التمهيد لإلغاء الطائفيّة (ولاحقاً المذهبيّة).
سركيس نعوم - النهار