بعض السياسات وتوجهاتها تقرأ من عناوينها أو من تفاصيلها الهامشية. وغالباً ما تقود التفاصيل إلى ما هو أكبر وأبعد حين نكتشف خلفياتها. ولبنان هذا التفصيل الصغير وسط حمم المنطقة والعالم، تستخدمه قوى متعددة كحقل اختبار سياسي واجتماعي واقتصادي وعسكري. فكان الميدان الأول الذي انعكست فيه ترددات المفاوضات الأميركية الإيرانية في سلطنة عمان، لتولد حكومة الرئيس تمام سلام. كما كان الميدان الأخير في ترجمة تداعيات الاتفاق النووي الذي وقع في العام 2015، فكانت التسوية الرئاسية في العام 2016، كنتاج للتوافق بين الإيرانيين والأميركيين.
حلف الأقليات
ليس بسيطاً أن يُنتخب ميشال عون رئيساً للجمهورية، بكل ما يكتنزه من تاريخ وتجارب لها دلالاتها المستمرة وارتباطاتها الواسعة بأحوال الإقليم وأبعد. حدث ذلك في لحظة مفصلية من تاريخ المنطقة، أي عندما انقض العسكر على الثورات العربية بوصفها إرهاباً، لصالح إعادة إنتاج الأنظمة العسكرية المطواعة، بدلاً من الثورات غير المنضطبة. هذا "الإرهاب" (الثورات) اجتمعت عليه إرادات متعددة، استثمرت فيه أحياناً وتقاطعت مصالحها مع مصالحه، إلى أن انقلبت الحسابات وبات الجميع يتسابق في ادعاء محاربته تحت عنوان "مواجهة التوحش".
والتقت على هذه التقاطعات قوى متعددة، واشنطن وموسكو، طهران والأنظمة العربية، وإسرائيل. وبمعنى أوضح يمكن لهذه التقاطعات أن تندرج في سياق لعبة الأمم، التي ترعى الآن حماية "تحالف الأقليات". هذا التحالف الذي لا يمرّ يوم إلا وتؤكد القوى المختلفة تمسكها به أو سيرها في سبيل تكريسه، من كلام لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأنه ممنوع على السنّة أن يحكموا سوريا، وهذا موقف أبلغه لافروف للكثير من الوفود التي التقاها، إلى كلام رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون في حضرة الكرملين شاكراً بوتين على حمايته للأقليات، وما بينهما من مواقف لوزير الخارجية جبران باسيل حول التحالف المشرقي، وانعدام وجود الخلاف الأيديولوجي مع إسرائيل وحقها أن تعيش بسلام من دون أي اعتداء على الآخر.
الانسجام مع موجة عالمية
ليس تفصيلاً ما يتحدث به باسيل في محافل سياسية إقليمية ودولية. مواقفه واضحة لجهة إرضاء القوى المتعددة والمتناقضة: مع "المقاومة"، ولا يختلف أيديولوجياً مع إسرائيل. مع إيران ويريد العلاقة الجيدة مع العرب والأميركيين. يتحالف مع السنّة والشيعة. وطبعاً ما يقوم به باسيل ليس من اختراعه، هو نما برعاية عون وبراعته في إدارة كل هذه التناقضات، التي تصبّ في ختامها عند قناعة واحدة تتلاقى مع موجة عالمية، تدغدغها فكرة تحالف الأقليات، والإبقاء على العلاقة مع الأكثرية بشرط أن تكون مطواعة وضئيلة الدور.
قد ننزلق من هذه القراءة الواسعة الأفق حول الوضع الدولي، إلى تفاصيل لبنانية بسيطة، ولكن أصبح من الضرورة الربط فيما بينها، خصوصاً أن السعار الشعبوي الذي يعيشه المجتمع اللبناني بمختلف مكوناته، لا ينفصل عن الموجة نفسها التي تضرب أوروبا وأميركا مع تنامي اليمين العنصري والأفكار المحافظة. وكأن هناك محرّكاً واحداً، يعمل على إحياء منطق الخواف لدى الجماعات.. في الثقافة اليوم، بعدما كان عسكرياً وإرهابياً، سابقاً. ولنا بما حدث مع "مشروع ليلى" خير دليل. إذ أن الفرقة نفسها قدّمت إحدى حفلاتها في جبيل قبل سنوات قليلة، ولم يكن هناك أي ردّ فعل مشابه لما حصل. استحضار الصورة التي ظهرت من العنف اللفظي والديني، ومتصلة بخواف اجتماعي ليس بسيطاً، ويؤشر إلى دلائل كثيرة، لا تنفصل عن ردّ باسيل على اعتراض قوى لبنانية على مقاربته لمسألة الوظائف والمناصفة، بقوله: "لا يهددنا أحد بالعدّ، لأن لدينا بدائل وخيارات أخرى". هل لأحد يمكن أن يتخيل ما هي هذه البدائل، غير منطق "الفيدرالية" أو التقسيم؟
وهنا يكمن جوهر القضية، إعادة التذكير بحقبات سابقة، وبإحياء منطق الفدرلة، بما لا ينفصل عن الموجة التي تصيب المنطقة بكليتها، من حالة التقسيم العسكري والجغرافي التي شهدتها سوريا على مرأى العالم، إلى حالات التقسيم والتقاسم في العراق، واليمن، وصولاً إلى صفقة القرن في فلسطين.
قوة باسيل و"الخبث" الدولي
يبقى السؤال البسيط، والذي يتردد على ألسنة كثيرين: "من أين يستمد جبران باسيل هذه القوة ليفرض ما يشاء وما يريد؟" الجواب البديهي السريع، يأتي: إنه يستند على قوة رئيس الجمهورية وحليف أقوى هو حزب الله. لكن الجواب يبقى ناقصاً. تلك القوة مستمدة من منظومة كاملة متكاملة تتكافل وتتضامن عالمياً، يجمعها مفهوم تقاطع المصالح، من سوريا إلى المغرب. أحد نماذج تقاطع المصالح هذا هو قتال الأميركيين والإيرانيين في صف واحد ضد تنظيم داعش في العراق. وعلى هذا يمكن الأخذ والقياس.
وتبقى القوة التي بحوزة باسيل مستندة على حراكات متعددة، تبدأ في موسكو ولا تنتهي في واشنطن، التي زارها باسيل مؤخراً. صحيح أن الإعلام لم يتحدث عن لقاءات عقدها الرجل هناك، إنما بحال كانت اللقاءات سريّة فذلك سيكون أخطر، وسيكون له مؤشرات متعددة للمستقبل، وهي التي قد يستند إليها الرجل في حربه الطاحنة التي يفتحها بوجه الجميع في لبنان. وتطال إلى جانب القوى السياسية، البنية الإنتظامية للمؤسسات.
وأيضاً في سياق ضرب الأمثلة، على "خبث" السياسة الدولية، التي يمكن الإضاءة على تقاطع مصالحها في سوريا، كساحة مفضوحة. فمثلاً تأتي العقوبات الأميركية على إيران في ظل اشتداد العود الإيراني، وتحقيق طهران تقدّمها السياسي والعسكري في المنطقة، من دون أي رادع، بينما يقوّض الدور الخليجي والسعودي تحديداً. وفي غمرة العقوبات، وبعض الاحتجاجات الإيرانية من أحد اطراف النظام على أداء وزير الخارجية محمد جواد ظريف، تأتي العقوبات الأميركية عليه بهدف تقويته ليس إلا، لأن هذه العقوبات ستجعل منه بطلاً قومياً إيرانياً. وهذا أيضاً مثال على آلية تعاطي الأميركيين مع من يعتبرونهم خصومهم. في الوقت الذي كانت فيه واشنطن تحذّر حلفاءها من الدخول في اتفاقات سياسية مع خصومهم وخصومها، يتبيّن أنها بشكل أو بآخر تلجأ إلى تسليم أولئك الخصوم كل ما يريدونه.
من زواريب لبنان إلى مضيق هرمز
المشكلة في حقيقتها ليست مع باسيل، ولا في مسألة عدم الفصل بينه وبين ما يفرضه رئيس الجمهورية ميشال عون بواسطته في لبنان. المشكلة تتخطى ذلك، وترتبط بمسألتين أساسيتين، الأولى نظرية تحالف الأقليات، والثانية الذهاب إلى مفاوضات أميركية إيرانية، ستكون على حساب كل خصوم المشروع الإيراني. وكما تحقق الاتفاق النووي في العام 2015، على دماء وأشلاء العرب وهدم مواطنهم ومدنهم، فإن الاتفاق الجديد سيكون على حساب تدمير "حضورهم السياسي" وحواضرهم الاجتماعية المؤثرة. وهنا يمكن النظر إلى "القوة الخفية" التي يستند إليها هذا المحور، لإنجاز وتحقيق ما يريد. إيران تقوض دور دول الخليج السياسي، وتعمل على التلاعب بأمن نفطه وممراته، كما عملت على تطويع وتقويض مختلف الدول العربية. وحلفاؤها في لبنان، يعملون على تقويض خصومها وتطويع البلاد كلها.
ولأن الوضع في لبنان، يحتاج إلى الإنسياب في تحقيق الهدف بناء على التفاصيل، عكس الوضع خارجه، فإنه لا بد من التوقف ملياً عند هذه التفاصيل، من قانون الانتخاب إلى تقويض الطائف بالممارسة، وصولاً إلى حادثة قبرشمون، والتي ارتبطت زواريبها المؤدية إلى المجلس العدلي أو المحكمة العسكرية، بممرات مضيق هرمز. هذا المسار الذي يريد له البعض أن يكون الطريق لتطويع قوى سياسية معارضة لهذا المشروع، الذي يعتبر نفسه منتصراً، لا ينفصل عن مسارات أخرى ترتبط بكل التحولات، لا سيما صفقة القرن، ترسيم الحدود، استخراج النفط، واستعادة الخواف من توطين الفلسطينيين، وما يرافقه من تحركات في الشارع مقابل خطاب عنيف يذكّر بأزمنة غابرة، ويضع البلاد على شفير انفجار. كل ذلك لا ينفصل عن "جرأة" باسيل في المطالبة من معقل حزب الله، باستعادة المبعدين إلى الأراضي المحتلة. صحيح أن مطلب عون- باسيل هذا قديم جديد، لكن رمزيته تبقى في مكان إطلاقه مجدداً، والتي لا بد من الوقوف عندها بكثير من التمعن.
منير الربيع - المدن