ما عاد مجدياً التعامل مع قضية قبرشمون وفق أساليب المقاربة السائدة. باتت المسألة متصلة بخلفيات تعطيل الحكومة وبالانقسامات العميقة (في هذا "العهد")، والتي أدت إلى ارتفاع منسوب التخاصم في هذه القضية. أصبحت "قبر شمون" مدخلاً لتعبير كل فريق سياسي عن موقفه تجاه الأفرقاء الآخرين. منذ العام 2008 إلى اليوم، وإن لم يكن هناك جبهتان واضحتان على مستوى الخيارات الكبرى، فهي المرّة الأصعب التي يقف فيها لبنان على مفترق طرق بالغ الخطورة، بما فيه من انقسام عمودي حادّ لن يكون من السهل التعامل معه.
لذلك، كل المبادرات "التقنية" الطابع التي يتم بحثها، وكل النقاشات حول عقد جلسة للحكومة وطرح الملف على التصويت وتعادل النتيجة، لن تفي بالغرض. المسألة أصبحت في مكان آخر مختلف كلياً.
انفراط الحكومة؟
هذا الكلام كان جزءاً أساسياً من النقاش الذي دار بين الرئيس سعد الحريري ووليد جنبلاط مساء الثلاثاء، للبحث في آخر تطورات قضية قبرشمون. يتعاطى الرئيس نبيه برّي ووليد جنبلاط مع مضمون هذه التطورات من نظرة واسعة تحيط بمختلف التأثيرات المحلية والإقليمية، بخلاف كل ما تنظر إليه القوى الأخرى، التي تنشغل بتفاصيل من هنا أو هناك، بعضها يريد تسيير عمل الحكومة، وبعضها الآخر يريد تحصيل مكاسب، من دون استشعار مخاطر ما يجري.
الرئيس سعد الحريري، مصرّ على انعقاد حكومته، وهو يعلم أن التعطيل سيبقى مستمراً إلى أن يتحقق مطلب رافعي الشروط بإدراج بند إحالة حادثة البساتين – قبر شمون على المجلس العدلي. ويراهن بذلك على سقوط الإحالة بالتصويت، ويعتبر أيضاً أن التعادل وإسقاط الإحالة (بعد ضمان النتيجة بـ 15 مع و15 ضد)، ستعود الأمور إلى طبيعتها، ويمكن للحكومة أن تنعقد مجدداً. وتكون قد تجاوزت مطبّ الحادثة والمجلس العدلي. لكن وجهة نظر الحريري هذه لا يوافقه عليها لا برّي ولا جنبلاط، اللذان يعتبران أن التصويت سيكون مشكلة، لأن عدم الإحالة على المجلس العدلي، ستدفع الوزير صالح الغريب إلى الانسحاب من الجلسة، وينسحب معه تضامناً وزراء حزب الله والتيار الوطني الحرّ، وعليه ينفرط عقد الحكومة. وبالتأكيد، هذا الانسحاب لن يكون لجلسة واحدة، بل سيتمدد إلى عدد غير معلوم من الجلسات الأخرى، خصوصاً أن سقوط الإحالة سيعني أن رئيس الجمهورية قد انكسر. وأيضاً، من بين الطروحات التي جرى البحث فيها هو عقد جلسة للحكومة، على أن يطرح ملف الإحالة على المجلس العدلي في نهايتها، وليس في بدايتها، ومع طرحه ترفع الجلسة. لكن هذا الطرح مدفون قبل أن يولد، إذ تصفه مصادر متابعة بأنه لا يرقى إلى خطورة الأزمة وكيفية التعامل معها.
الهجمة الشرسة
كرة النار أصبحت كلّها بين يدي الرئيس سعد الحريري. نظراً لدوره وموقعه. والمشكلة لا تعالج بتكتيكات إجرائية، في ظل "الصراع" السياسي المفتوح. وقد خلص اللقاء بين جنبلاط والحريري إلى عدم توجيه الحريري دعوة إلى انعقاد مجلس الوزراء، لأن لا أحد يعلم ما يمكن أن يحصل، ولأن سقوط الإحالة أو مرورها سيؤدي إلى إنفجار أزمة سياسية كبرى في البلاد. في المقابل، فإن الطرف الآخر سيستمر بالضغط على الحريري لاستدراجه إلى عقد الجلسة، وإذا ما تراجع الحريري ورضخ لهذا المطلب، سيكون قد وقع في كمين سياسي ستظهر فداحة نتائجه لاحقاً.
والكلام الذي يقال في الكواليس والمجالس، عن رفض المبادرات ورفع الشروط وحده كفيل بإيضاح حجم الهجمة السياسية الشرسة على البلد، والتي لم تعد تتعلق بوليد جنبلاط فقط، بل كان أحد أبرز حلقاتها، فيما موضوع الموازنة، والرسالة إلى المجلس النيابي، وغيرهما من الطروحات حول الطائف والدستور والحديث عن وقف العدّ، أو الخيارات الأخرى.. فهي كلها جزء من هذه الدوامة، والتي لا ينفصل عنها الصراع على الصلاحيات.
التنازل أو الإقدام
إزاء ذلك، يقف سعد الحريري أمام خيار من إثنين، إذا أحجم في هذا الملف وتراجع كما في السابق وقدم التنازلات، فسيتحول إلى أسير كامل لحزب الله والتيار الوطني الحرّ ولمعادلة السلطة التي يتحكمان بها، وفيما بعد سيخرج مهزوماً بالكامل. وهناك الكثير من الأمثلة التي تدلّ على ذلك، كالرؤساء سامي الصلح ورشيد الصلح وشفيق الوزان. أما الخيار الثاني فهو أن يقدم على اتخاذ القرارات التي يراها مناسبة. وإذا أقدم سيكون أمامه احتمالان، إما أن يردوا عليه باللجوء إلى الاستقالة وإسقاط حكومته، بفعل تحكّمهم بالثلث المعطّل، والقابل للاستخدام عند كل محطة واستحقاق (بفعل خطأ التسليم بشروط تشكيل الحكومة)، وبالتالي يخرج حينها الحريري بطلاً، مستعيداً ثقة ناسه وحلفائه وأصدقائه، وقوياً قادراً على تطويق أي مشروع رئيس حكومة قد يأتي بدلاً منه. أو أنهم سيحترمون إقدامه ويتحسبون لخطورة إسقاط حكومته سياسياً واقتصادياً، وعندها أيضاً سيكون بطلاً في إخراج البلد من الأزمة. وإقدامه هذا (المفترض) من الأفضل أن يكون على قاعدة أن المسألة لم تعد تخص وليد جنبلاط ولا تنحصر به، إنما لبنان كله يقف على شفير هاوية، وهو الأقدر جدياً على إنقاذ الموقف من خلال موقعه.
يحرص الحريري على عدم الاصطدام بأي طرف، ويحرص أكثر على موقع لا يريد أن يخسره، ويعتبر أنه مستمر فيه بفعل استمرار التسوية. وقد لا يبدو مطمئناً أن حجمه السياسي (مهما توسع) وشعبيته (مهما تنامت واستعيدت) وتحالفاته (مهما تجددت وتعمّقت)، لن توصله إلى رئاسة الحكومة من دون إرضاء عون وباسيل. لذلك، يحرص على البحث عن مخرج يرضي الجميع، مع استمرار تحرّكات اللواء عباس ابراهيم وفق مبادرة جديدة، قد تكون بإبقاء الملف لدى المحكمة العسكرية، وبعد انتهاء التحقيق يعاد طرحها على مجلس الوزراء، لإحالتها على المجلس العدلي.
أجواء التصادم أقوى
لكن الأمر ليس بهذه البساطة. فالحسابات السياسية في مكان آخر، وعنوانها تطويع البلد. والمشهد العام بدأ بالتحول، من خلال مواقف رؤساء الحكومة السابقين، التي بدأها نجيب ميقاتي بهجوم على رئيس الجمهورية مباشرة، وبلا أي قفازات (أي ليس من نوع الهجوم على الوزير جبران باسيل وتحييد الرئيس، على قاعدة الفصل بينهما)، واستكملها الرئيس تمام سلام. الرؤساء يعبّرون بوضوح ويشيرون إلى أن ما يقوم به باسيل يوافق عليه رئيس الجمهورية ويدعمه. ولذلك هم يتحدثون بلغة اعتراضية على المسار برمّته. هذه المواقف من شأنها أن تحرج الحريري في شارعه وتميل به أو تشدّه إلى التمنع عن تقديم أي تنازل.
وفي إطار الضغط المستمر على الحريري، عقد في بعبدا لقاء جمع إلى رئيس الجمهورية، الوزراء الياس بو صعب، سليم جريصاتي، صالح الغريب، والنائب طلال ارسلان واللواء عباس ابراهيم، للبحث في كيفية تأمين ظروف عقد جلسة حكومية. وحسب المصادر، فإن اتجاه الاجتماع كان التمسك بالمطالب نفسها، وهي اشتراط طرح إحالة الملف على المجلس العدلي. وقد شيّع المجتمعون أجواءً أن الدعوة لجلسة حكومية ستحصل (!) في المقابل، كان الحريري لا يزال على موقفه. وهذا ما بحثه الوزير أبو فاعور مع الحريري. إذ جرى التأكيد على رفض منطق المكاسرة. والمعادلة الثابتة هي لا تصويت في مجلس الوزراء. واذا تم التراجع يكون الحريري قد أدان نفسه بنفسه. إذ سيحملونه مسؤولية التعطيل لأن لا شيء يكون قد تغير في الشروط.
وفيما كانت مساعي ابراهيم مستمرة، كان هناك رهان من قبل ارسلان والفريق المحسوب عليه على ما يمكن أن تنجزه المحكمة العسكرية، والتي قد تصدر قرارات معاكسة تماماً لوجهة تحقيقات شعبة المعلومات ومخابرات الجيش. وهذا إن حدث، سيعتبر هجوماً مباشراً على الحريري لإحراجه وهزمه، بينما الاشتراكي أعلن أنه لن يسمح بأي تلاعب بالقضية، على نحو يغير فحوى التحقيقات، ويفتح الطريق أمام المجلس العدلي.
منير الربيع - المدن