لم يخلُ يوم خلال الأسبوع الفائت من تطمين ما تجاه مستقبل الوضع المالي والنقدي في لبنان، ومآله في المرحلة المقبلة، بدايةً من كلام وزير المال، الذي أعاد التأكيد على متانة وصلابة وحيويّة القطاع المصرفي اللبناني، وصولاً إلى حديث رئيس جمعيّة المصارف، الذي توقّع "تعافياً شديد الإيجابيّة" في الفترة المقبلة. أمّا حاكم المصرف المركزي فتعدّدت إطلالاته وتصريحاته خلال الأسبوع، متحدّثاً بتفاؤل عن أثر أموال سيدر على عجز الدولة، ومؤكّداً بحزم أن الليرة مستقرّة والوضع الاقتصادي متّجه إلى التحسّن. كل هذه التصريحات تظهر حاجة مستجدّة لدى أصحاب القرار لخلق موجة مكثّفة من التطمينات، استباقاً لاستحقاقات داهمة على القطاع المالي، أبرزها تصنيفات وكالات الائتمان المرتقبة وأزمة التحويلات الماليّة.
ضبط التحويلات باتجاه الخارج
كثافة التصريحات خلال الأيام الماضية، ومضمونها الحازم في توقّع تعافٍ مالي وإنطلاقة جديدة، تعكس بوضوح إصرار جميع الأطراف على خوض "حرب نفسيّة"، في مقابل القلق والتذبذب الذي يسود الأسواق اليوم. فحجم التحويلات الماليّة باتجاه الخارج، في أوّل خمس أشهر من السنة، بلغ حد انخفاض صافي الموجودات الخارجيّة للمصارف الخاصّة بحوالى 2.1 مليار دولار، ولمصرف لبنان بحدود 3 مليار دولار خلال الفترة نفسها، مع العلم أنّ هذا المؤشّر يعكس بالتحديد الانخفاض في السيولة بالعملة الصعبة المتوفّرة بحوزة القطاع المالي.
ولإدراك حجم الأثر الذي تركته هذه الظاهرة، يكفي التذكير بأن مستوى الودائع الموجودة في لبنان شهد لأوّل مرّة سلسلة انخفاضات شهريّة، ما أدّى إلى تراجع حجمها من 174.28 مليار دولار في كانون الأول الماضي إلى حدود 170.85 مليار دولار في شهر أيار. وفي المحصّلة، أدّى ذلك إلى تسجيل مجموع موجودات القطاع المصرفي تراجعين شهريين منذ بداية السنة (في شهر كانون الثاني وشهر أيار).
هذه الانخفاضات القياسيّة في حجم السيولة بالعملة الصعبة، والناتجة عن تحويل الأموال إلى الخارج، تدل بوضوح أنّ هناك مشكلة فقدان ثقة لدى كثيرين بقدرة النمط الاقتصادي القائم على الاستمرار. وعمليّاً، أصبحت مشكلة الثقة هذه أحد أسباب تفاقم الأزمة الموجودة، وهو ما يدفع هذه التصريحات إلى العمل على خلق أجواء إيجابيّة تصاحب إقرار الموازنة و"إعادة الانتظام المالي"، ولو أنّ الجميع يدرك المحدوديّة الفعليّة لأثر هذه الموازنة على الوضع الاقتصادي.
التخوّف من إعادة التصنيف
في الواقع، أزمة التحويلات إلى الخارج ليست مستجدّة، خصوصاً أن عجز ميزان المدفوعات – وهو صافي التحويلات بين لبنان والخارج- يسجّل منذ بداية العام هذه المستويات القياسيّة، وصولاً إلى مستوى عجز بلغ 5.19 مليار دولار حتّى أيار الماضي. لكنّ المستجد حاليّاً هو انتظار الجميع لتصنيفات وكالات الائتمان المرتقبة، التي سترتكز في جزء أساسي منها على هذا المؤشّر بالذات، خصوصاً أنّه يشكّل العامل الأكثر ضغطاً اليوم على بنية النظام المالي اللبناني. ومن هنا، يرى الجميع أهميّة التعامل مع مسألة ثقة الأسواق بالوضع المالي، عبر هذه التصريحات المطمئنة، في محاولة لضبط ظاهرة التحويلات الماليّة باتجاه الخارج قدر الإمكان، قبل صدور هذه التصنيفات.
ومن ناحية أخرى، ترتبط كثافة هذه التصريحات ونوعيّتها بالتصنيفات المرتقبة. فأي تخفيض محتمل في التصنيف الائتماني لسندات الدين السيادي سيترك أثراً كبيراً على توازنات العرض والطلب في أسواق السندات، كما سيترك أثره على حجم التحويلات الماليّة وثقة المستثمرين بالوضع المالي. ومن هنا، تحاول هذه التصريحات قدر الإمكان استباق أي سيناريو مماثل، عبر خلق موجة من التطمينات التي تقلل قدر الإمكان من الأثر السلبي المحتمل في حال حصول هذه السيناريوهات. مع العلم، أن أي انخفاض إضافي في أسعار سندات الدين السيادي، سيعني في المستقبل ارتفاع الفوائد على إصدارات الدين الجديدة، وهو ما سيخلق أكلافاً إضافية من ناحية خدمة الدين.
ما لا تقوله التصريحات: الهندسات هي الرهان
السلطة تتعاطى إذاً مع الأزمة بأسلوب "الحرب النفسيّة"، في محاولة مكرّرة لخلق حالة إيجابيّة تعيد الاطمئنان في الأسواق. وبينما تحفل التصريحات بعناوين تستبشر خيراً بالموازنة وأموال سيدر وحتّى أموال النفط، يدرك العارفون بالوضع النقدي جيّداً أن كل هذه العناوين بعيدة عن المعالجات الفوريّة، المطلوبة للأزمة الماليّة في البلاد. في الواقع، يبدو رياض سلامة منخرطاً في تكرار هذه العناوين لمجرّد ضرورة المساهمة في تطمين الأسواق، بينما تكمن رهاناته الحقيقيّة في مكان مختلف تماماً، لا يتحدّث عنه مباشرةً.
فمنذ مباشرة مصرف لبنان بإجراء الهندسات الأخيرة، تتحدّث الأوساط المصرفيّة عن حوالى المليار دولار التي تمكّن القطاع المصرفي خلال الأسابيع الماضية من استقدامها إلى السوق المحلّي. وعلى أرض الواقع، يكمن رهان مصرف لبنان الفعلي على هذا النوع من الإجراءات، لعكس مسار تدفّق الودائع باتجاه السوق اللبناني، وهو ما يمكن أن يخلق في المرحلة المقبلة حالة من الاطمئنان، التي تساهم برفع الثقة بالقطاع المالي المحلّي وعودة تدفّق التحويلات الماليّة إليه. ومن ناحية أخرى، يكمن الرهان على هذه الهندسات لتحصين السيولة في القطاع المصرفي، قبل إصدار وكالات الائتمان لتصنيفاتها في الفترة المقبلة، خصوصاً أن مستوى السيولة الموجود يُعد عنصراً حاسماً للوكالات عند النظر في المخاطر المرتبطة بالسوق المحلّي.
التعامل مع العوارض لا المشكلة
سواء كان رهان السلطة السياسيّة على التصريحات والعامل النفسي للمستثمرين، أو كان رهان حاكم مصرف لبنان على الهندسات الأخيرة، تبقى كل هذه الخطوات مجرّد حقنات مهدّئة للتعامل مع الآثار التي تتركها الأزمة. وواقعيّاً، يمكن للهندسات الماليّة في حدّها الأقصى أن تعطي الاقتصاد اللبناني مزيداً من الوقت للتعامل مع الأزمة، شأنها شأن الهندسات التي جرت سنة 2016، والتي تمكّنت من معالجة عجز ميزان مدفوعات بشق النفس لسنة واحدة. لكنّ مكمن الخلل الأساسي يبقى في مكان مختلف، وهو يرتبط بالسياسات الاقتصاديّة، التي تحتاج سنوات من الخطط والمعالجات الجذريّة، وهو ما لا تتجه السلطة السياسيّة حاليّاً إلى فعله، لا بل تبدو الموازنة الحكوميّة تسير تماماً عكس المطلوب منها.
علي نور - المدن