توجهت الأنظار اللبنانيين بعد إقرار موازنة 2019 في مجلس النواب نحو موازنة 2020. وزير المال علي حسن خليل أعلن أن المشروع بات جاهزًا وسيحيله إلى مجلس الوزراء في آب المقبل، لاستعجال إقراره قانونًا في مجلس النواب في المهلة الدستورية في تشرين الأول 2019. فجأة تحولت المادة 80 من قانون موازنة 2019 قضية بذاتها، أثارها الوزير جبران باسيل على خلفية طائفية، زعم إنها تتسق مع "ميثاق العيش المشترك". ودعواه باطلة أقلها لأسباب ثلاثة. الأول، لأن الدستور كما بات معروفًا للجميع، لحظ المناصفة في الوظائف الأولى بين المسيحيين وبين المسلمين. ولا ينطبق الحال على المواطنين الذين نجحوا للوظيفة العامة في امتحانات مجلس الخدمة المدنية. أمّا الثاني، فلأن الدستور قال بالمساواة بين المواطنين وليس بين الطوائف، وعلى قاعدة الكفاية والإختصاص. وأمّا الثالث، فاستحضار باسيل "ميثاق العيش المشترك" لحرمان مواطنين في صرف النظر عن طوائفهم حقوق المواطنة التي كفلها الدستور. وحق العمل لا يتعارض مع "ميثاق العيش المشترك". أن تتحول القضية عقبة في وجه توقيع رئيس الجمهورية ميشال عون قانون الموازنة ونشره بمرسوم في الجريدة الرسمية ليصبح نافذًا، فالدستور واضح. وضع قواعد لذلك يعلمها الرئيس وأدرى بها.
المنغصات الوطنية
في جعبة "الفتى الأغرّ" كل المنغصات الوطنية ووصفات الإنقسام الوطني الخطير. يستخدمها بمنهجية غبّ الطلب. وفي الأوقات الحرجة للبنان الدولة والاقتصاد والاستقرار الاجتماعي. أخطر ما فيها إنها باتت تُنسب إلى موافقة رئيس الجمهورية المسبقة أو اللاحقة. لم يستحضر "ميثاق العيش المشترك" حين أقدم رئيس بلدية الحدت على قرار منع شراء العقارات من أبناء طوائف أخرى غير طائفته، أو حتى السماح لهم باستئجار منازل. تباهى بذلك، وعزا قراره إلى دعم من كبار المسؤولين. نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا لم يفعل ذلك. أيستوي أي كلام بعد عن "العيش المشترك"؟ والدستور يقول صراحة "أرض لبنان واحدة لكل اللبنانيين. فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها والتمتع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان ولا تجزئة ولا تقسيم لا توطين".
تعداد السكّان
لافتًا كان الإحصاء الصادر عن "الدولية للمعلومات" الذي أظهر فرقًا عدديًا شاسعًا بين المسيحيين والمسلمين لجانب الفريق الثاني. وتعداد السكّان هو وظيفة الدولة. تمتنع عنها، لأن النظام السياسي الطائفي المسموم لا يتيح ذلك. علمًا، أن تعداد السكّان قاعدة تبنى عليها كل أسس الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما وسياساتها الكلية وتوقعاتها للمستقبل. لو قُدرّ لهذا النظام المسخ الذي عطّل الدولة، واستباح وطنًا وشعبًا، أن ينهج قول "الفتى الأغرّ" ويسلك سلوكه ومنغصاته الوطنية على قاعدة ما فرزته الإحصاءات، والبناء عليها في السياسات الوطنية والدستور وخصوصًا في "ميثاقه للعيش المشترك"، لاخترب البلد وانهار الكيان.
إقرؤا جيدًا الخبر الذي نقلته وسائل إعلام قبل ظهر السبت عن القناة التلفزيونية الناطقة باسم "التيّار الوطني الحرّ": تعليقًا على الحملة المبرمجة ضد وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل في موضوع المادة 80 من الموازنة، قالت مصادر مسؤولة في "التيًار الوطني الحرّ" و"تكتل لبنان القوي"، كنا نعتقد أن وقف العدّ والامتناع عما يناقض ميثاق العيش المشترك هو مبدأ ثابت. لكن ما جرى في موضوع الموازنة يجعلنا نسأل، هل الأحزاب والقيادات السياسية حريصة فعلا على الشراكة المتوازنة وعلى التنوع؟ أم أن المناصفة مجرد كلام من دون التزام؟
هاتوهُم من طائفة واحدة!
ومن لم تضّرسه الخطوبُ بنابِها.. يظن شاكيات النفوسِ تشاكيًا. قال إيليا أبو ماضي. لا ندًعي ربطًا وتوقيتًا، بين ما قصده المصدر المعني من "وقف العدّ" وبين إحصاء تعداد اللبنانيين. ولا ما بين الإثنين وبين "ميثاق العيش المشترك". لا نتوجه هنا إلى شخص بعينه ينشر الفتنة في وطن شاعرنا الكبير العذب. بل إلى كل من هو على النحو والشاكلة. لا تتخذوا من إحصاء تعداد السكًان إلاً وثيقة نحسبها علمية لمعرفة تعداد اللبنانيين قد تكون مادة سجالية في توقيتها. ملايين المقيمين مسألة أخرى. نقول، هاتوا لنا الرؤساء، وكبار الموظفين، والمديرين العامين والقضاة، والضبّاط، والموظفين من طائفة واحدة. شرط الكفاية، والنزاهة، والعلم، والعدل. والإقدام في تطبيق الدستور والقوانين. الزبائن يقولون غير ذلك. اللبنانيون لا يريدون "العدّ". يريدون التنوع قيمةً وثقافةً وتراثًا. إنما يريدون العدالة لـ"العدّ". والمساواة في تكافؤ الفرص. من يدّعي غير ذلك، يتمسك بميثاقه لنفسه ولمنافعه ومنافع تيّاره. ويترك "العيش المشترك" مجلبة للتنابذ والإحتراب. وهذا الصنف لا علاقة له بالتنوع، بل بالنوع يتفرّد به هجينًا غير مسبوق في ثقافة اللبنانيين وحياتهم السياسية والاجتماعية.
المادة 80 من الموازنة أهم ما فيها. ويجب أن تسلك موازنة 2019 المسار الدستوري وتنشر. الوظيفة العامة بوابتها مجلس الخدمة المدنية. ومن ينجح في الاختبار يؤخذ. إذا كان هذا الشأن البديهي سيرجئ نشر موازنة 2019 ونفاذها بحسب الأصول، وقت يتعذر فيه انعقاد جلسة لمجلس الوزراء على خلفية أحداث الشويفات وقبرشمون، يعني أن موازنة 2020 على طريق مثيلاتها السابقة، ستأتي من خارج السياق الزمني والدستوري، وستكون في سباق مع الوقت ذريعة لعدم إجراءات أي إصلاحات في الموازنة وحسابات المالية العامة. والعجب كل العجب، أن المسؤولين على علم بالمسار الذي بلغه الوضعان المالي والنقدي. وبنحو الصفر نموًا في 2019. وما زالوا يمارسون رفاهية الوقت لإمرار أحابيلهم السياسية وتسجيل المواقف على قاعدة من يربح ومن يخسر. وفي الهوًة السحيقة لا مكان لرابح.
اكتتاب الـ11 تريليون
واهمٌ من يعتقد أننا فرغنا من موازنة 2019 وأرقامها وتقديراتها. كل يوم تأخير يضاف إلى عدم نشر الموازنة، يسقط مفاعيل الضرائب والرسوم وجبايتها في الشهر الثامن من السنة. ونحن لم نوفر بعد واحدًا من أهم مصادر تمويل الموازنة العائد إلى اكتتاب الـ11 تيريليون ليرة بفائدة 1 في المئة. بعد استبعاد المصارف، علمنا أن الأمر بات صعبًا على مصرف لبنان كي يكون البديل في الوقت الراهن. وهو يتحيًن الفرص لإصدار يوروبوندز بأكثر من مليار دولار أميركي لا يبدو مرحبًا به في الأسواق بشروط ملائمة. ولدينا استحقاق يفوق المليار دولار أميركي في تشرين المقبل. وخزين الودائع يتراجع لدى المصارف. وكذلك حصيلة إصدارات الدين بالليرة اللبنانية لقاء استحقاقاتها. هل يعي المسؤولون معنى هذه المؤشرات مجتمعة؟ وأي جهة تفتي في شأنها، المجلس العدلي أم المحكمة العسكرية؟ ربما تعداد السكًان المرجع الصالح لتوزيع الأعباء، و"ميثاق العيش المشترك" المكان الأرحب للبؤس والإحتراب.
عصام الجردي - المدن