تتوالى المؤشرات التي تنذر اللبنانيين باحتمال انفجار أزمة سياسية حادة آخذ في التصاعد. فمنذ حادثة البساتين - قبرشمون، مروراً بخطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، وردّ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط عليه أخيراً، ترتسم معالم أزمة أسبابها المباشرة ليست داخلية وحسب، بل خارجية أيضاً.
خضات أمنية محتملة
يندرج هذا التصعيد إما في إطار حسابات تكتيكية لدى كل طرف قبيل الجلوس إلى طاولة حوار وطني لن تكون مستبعدة، وإما في إطار تأجيج التوتر من دون أمل بانفراج قريب.
في السيناريو الأول، قد يوضع حدّ للتصعيد وإعادة إنقاذ التسوية السياسية التي أوصلت العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، والنائب سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة. أو على الأقل قد يسعى المتخاصمون جميعاً إلى كسب الوقت وتأجيل انفجار الأزمة. أما في السيناريو الثاني فسيكون لبنان مجدداً أمام مصير مجهول.
بكل وضوح، يُِظهر تطور المواجهة بين واشنطن من جهة وطهران وحزب الله من جهة أخرى أن الحديث عن سياسة النأي بالنفس وإبعاد لبنان عن الصراع الإقليمي، لم يعد واقعياً. وعليه ثمة ملامح اصطفاف سياسي جديد. وهذا يعني أن ما يسمى بـ"حكومة الوحدة الوطنية"، إنْ بقيت على قيد الحياة، ستتحول إلى مجلس لإدارة التجاذبات. لتتحول التسوية السياسية إلى ما يشبه عقد زواج بين طرفين انفصلا وظلا يتشاركان البيت نفسه من دون إتمام إجراءات الطلاق. ومن المحتمل إذاً أن يدخل البلد من جديد في دوامة الانقسام والتعطيل والتحدي، من دون استبعاد خضات أمنية هنا وهناك.
أزمات لبنان المتلاحقة
وقوع أزمات حادة في لبنان على وقع الصراعات الإقليمية والدولية مألوف في التاريخ القريب. ولطالما كان دور اللاعبين الدوليين والإقليميين مؤثراً فيها، وهم كانوا يساهمون أحياناً كثيرة بتأجيجها. وتشير التجارب السابقة إلى أن إدارة أزمات لبنان كانت تؤدي إلى واحدٍ من مخْرَجَيْن:
أولاً، تنتهي بتسوية بفضل التفاهم بين الأطراف الخارجيين، على ما حصل عام 1958 في غضون أشهر، بسبب التفاهم الأميركي ـ المصري الضمني، الذي أدى إلى إبرام تسوية سياسية لبنانية على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب". وفي العام 1969 احتكم الجميع إلى منطق احتواء الاشتباكات العسكرية بين الفصائل الفلسطينية المسلحة والجيش اللبناني. لم يكن ذلك ممكناً لولا التفاهم الضمني بين مصر والغربيين الذين وافقوا على "اتفاق القاهرة" (1969) على مضض. وعندما وقعت الحرب الأهلية عام 1975، أتت أوّل محاولة لوقفها عام 1976، ثمرة لتفاهم ضمني أميركي ـ سوري، فأوكل إلى الجيش السوري مهمة إيجاد حل عسكري للصراع بين تحالف اليسار والمسلمين و"منظمة التحرير الفلسطينية" وتحالف الأحزاب المسيحية. وهذا ما حصل عملياً في نهاية 1976 بغطاء عربي جسدته "قوات الردع العربية". وبعد جولات من الانتكاسات، لم تنته هذه الحرب الطويلة إلا بتفاهم الأميركيين مع السوريين في أواخر الثمانينات، بتفويض السوريين حل الصراع المسلح اللبناني نهائياً. ودام مفعول هذا التفاهم أكثر من عقد من الزمن، في ظل معادلة اصطلح على تسميتها لاحقاً بالـ"سين سين"، للدلالة على الرعاية السعودية ـ السورية للتسوية السياسية في لبنان.
فشل أميركا
في ما يتعلق بالمَخْرَج الثاني، كانت الأزمات تتفاقم وتتحول أحياناً إلى حروب، بسبب غياب التفاهم بين اللاعبين الخارجيين المعنيين بإدارة الصراع اللبناني. خير مثال على ذلك الأحداث التي شهدها البلد بين عامي 1982 و1984. في تلك الفترة كان الخلاف جذرياً بين الإدارة الأميركية والنظام السوري، على عكس ما كان عليه الحال عام 1976. كانت الدبلوماسية الأميركية تبذل جهوداً حثيثة لفرض انسحاب القوات السورية من لبنان، وإعادة هذا البلد إلى الاصطفاف في مدار المحور الغربي، ودفعه لتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل. أدى ذلك إلى صدام عنيف، نجحت سوريا في إدارته لمصلحتها بالتحالف مع الاتحاد السوفياتي وإيران... وانتهت المواجهة آنذاك بسحب الولايات المتحدة قواتها "مهزومة" من لبنان عام 1984 (كانت متمركزة فيه ضمن ما يعرف بـ"القوات المتعددة الجنسيات")، قبل أن تنتقل الإدارة الأميركية إلى سياسة التفاوض مع دمشق، تحت ضغط أزمة الرهائن، وصولاً إلى مصادقتها على الحل السوري في لبنان.
سياسة الاغتيالات
لغياب التفاهم مثال آخر عرفه لبنان بين عامي 2004 و2008. خلال تلك الحقبة انفجرت أزمة سياسية حادة بعدما احتدم التحدي الأميركي ـ السوري. كان لدى واشنطن سلّة مطالب تريد من دمشق تحقيقها، أبرزها يتعلق بالوضع في العراق بعد عام 2003، وبما كانت تصفه الإدارة الأميركية بالدعم السوري لـ"منظمات إرهابية"... وأدى عدم التفاهم بين أميركا وسوريا إلى تصعيد، ساهم في تفاقم الانقسام السياسي بين اللبنانيين، وصولاً إلى تدهور أمني تخللته اغتيالات سياسية وعدوان إسرائيلي عام 2006 و"تمرين" على حرب أهلية مصغرة عام 2008. ولم تنجح التسوية في الدوحة في تلك السنة، لولا التوافق الضمني بين الغربيين والسعوديين من جهة، والمحور السوري ـ الإيراني من جهة ثانية.
الغموض المتجدد
يمكن استخلاص دروس عديدة من تاريخ الأزمات اللبنانية. ولعل الدرس الأهم يتمثل انعدام التفاهم بين اللاعبين الخارجيين المعنيين بإدارة الصراع اللبناني، عندما تكون لديهم نوايا بالتصعيد والذهاب بالتحدي في ما بينهم حتى النهاية، وحين تغدو المفاوضات بينهم خياراً مؤجلاً، على ما هي الحال اليوم بين واشنطن وطهران.
هذا يعني أن الأزمة السياسية التي تلوح في الأفق اللبناني اليوم، ستكون أزمة مفتوحة. وتكمن خطورتها ليس فقط في أنها ستعيد لبنان إلى حالة عدم اليقين التي تذكّر بويلات الماضي، بل في إضفائها من الغموض ما يكفي لعدم معرفة موعد الانفراج.
نبيل الخوري - المدن