مسار التعامل مع الرئيس سعد الحريري من قبل "شركاء" الحكم هو المزيد من الاستضعاف. يريدون تطويعه أكثر فأكثر، في كل ما له وعليه. الجلسة الأخيرة لإقرار الموازنة كانت بالغة الأهمية في وقائعها ومضمونها ونتائجها. استشعر الحريري خطراً حقيقياً عبر تطويق صلاحياته من الناحية الإجرائية هذه المرّة، وليس من الناحية السياسية فقط. فما أن هبّ معترضاً على ما تعرّضت له مؤسسات تابعة لرئاسة الحكومة، حتّى جابهته ردود متعددة، أفهمته أن قواعد اللعبة معروفة وموازين القوى واضحة، إما أن يرتضيها، أو أن أي محاولة منه للخروج عليها عنها ورفضها ستكون الحكومة برمتها ثمناً لها. بمعنى أوضح، هناك من لوّح له بإسقاط الحكومة إن اعترض، فاضطر إلى التراجع والرضوخ.
مجلس الإعمار وهيئة الإغاثة
تلقى الحريري، طوال الفترة الماضية، الكثير من رسائل التطمين حول بنود الموازنة، لا سيما تلك التي تتعلق بالمؤسسات التابعة له. وقد نام الرجل على حرير كما في مرّات سابقة، واثقاً من حماية جنباته بالاعتماد على رسائل التطمين. لكنّه سرعان ما تفاجأ باللغم وقد انفجر في وجهه خلال جلسة التصويت على بنود الموازنة. والمشكلة لم تظهر في لحظتها فجائياً، بل بدأت في جلسة لجنة المال والموازنة، التي أسست لهذا اللغم، فيما لم يكن أي من نواب الحريري واعياً لما يجري، أو ربما فضلوا عدم الدخول في مواجهة.
عند التصويت على الموازنة، جاء طلب إلغاء 175 مليار من ميزانية مجلس الإنماء والإعمار، فاعترض الحريري غاضباً، ليتحول السجال حول نسبة التخفيض، التي وصلت إلى حد إلغاء 100 مليار مقابل الحفاظ على 75، فبقي الحريري على غضبه، ليتصاعد أكثر في الميزانية المخصصة للهيئة العليا للإغاثة ولأوجيرو، وكان الاقتراح شطب 14 مليار من ميزانيتها، هي عبارة عن سداد لرواتب 10 آلاف موظف تم إدخالهم قبل الانتخابات النيابية. اعترض الحريري مجدداً معتبراً أن كل الأحزاب شاركت بالتوظيف. لكن الرسالة التي وجهت إليه كانت واضحة، بتحميله وحده مسؤولية هذه التوظيفات غير القانونية. هذا فضلاً عن تعمّد استهداف كل المؤسسات التابعة له.
همس النواب
الأهم في ما جرى، هو طريقة إدارة الرئيس نبيه برّي للأمور، والتي لمس فيها الحريري أيضاً نوعاً من الاستهداف، أو هو سياق جديد قد فتح في التنازع على الصلاحيات، إلى حدّ وصل فيه الأمر ببعض النواب الحاضرين إلى التعليق همساً، بأن الحريري هو من يتحمل المسؤولية، لأنه ارتضى هذا المسلك في تصرفه مع التيار الوطني الحرّ، ولم يبد حرصاً وتشدداً في الحفاظ على صلاحياته. وهو الأمر الذي أيقظ شهية الجميع بالقفز عليه وانتزاع بعض صلاحياته. ولكن الخفي في طريقة إدارة برّي لهذا الأمر، هو رسالة قاسية أراد إيصالها للحريري، تترجم اعتراض برّي على موقف أطلقه رئيس الحكومة مؤخراً خلال زيارته إلى القوات البحرية في اليونيفيل، حين اعلن أنه يستعد لإعادة إحياء مسار مفاوضات ترسيم الحدود، والتي يجب استعادتها إلى مجلس الوزراء. كلام يعبّر عن انزعاج الحريري من استحواذ برّي على هذا الملف، والذي يشهد جموداً تاماً. فأراد برّي الرد على الحريري على طريقته. وعليه التقت مصالح برّي والتيار الوطني الحرّ وحزب الله في تطويق الحريري أكثر فأكثر في هذه المرحلة. بينما هم يعرفون أنه سيقف مجرّداً من أي قوة في مواجهتهم، طالما أنه تم إشغال وليد جنبلاط في معركة المجلس العدلي، وإشغال سمير جعجع في معارك مسيحية، خصوصاً في معركة التعيينات المرتقبة.
مسار التسوية ينعرج
إذاً، ثمة من يقول للحريري إن قواعد اللعبة واضحة. وإذا ما أراد الاستمرار فيها، فعليه الالتزام بها. وقد يتطور هذا المسار ليرتبط بسلسلة عناوين وقضايا سياسية، أبزرها ما يتعلق بموقفه الداعم لوليد جنبلاط في إشكالية إحالة حادثة قبر شمون على المجلس العدلي. وقد يشتد الضغط عليه بغية ليّ ذراعه. بالتأكيد فهم الحريري الرسائل. ولذلك، عندما خرج مباركاً للبنانيين إقرار الموازنة، جدد حرصه على التسوية. لكن من الواضح أن قواعد هذه التسوية قد تغيّرت، وبدأ مسار تغييرها من الاعتداء على صلاحياته والتلويح باستخدام الثلث المعطل لفرض جدول أعمال مجلس الوزراء، واستكملت في جلسة الموازنة الأخيرة، بعدما تم المساس بمؤسسات تابعة له بشكل مباشر. وكأن العنوان المفروض عليه، هو القبول بما يفرضونه عليه أو خسارة الحكومة. والأخطر من ذلك، أنهم أرادوا التأسيس لتصور قد يظهر لاحقاً عند أي اشتباك سياسي، وهو تحميله مسؤولية التجاوزات في المؤسسات، على مثال مسألة التوظيف في أوجيرو.
الرسائل الموجهة إلى الحريري واضحة، ومن يوجهها يقول له أن هذا المسار سيستمر على حاله. وكأنهم يبتزونه بمنطقه البقاء بأي ثمن.. وإلا: "مع السلامة".
منير الربيع - المدن