لعل أبرز خلاصة يمكن الخروج بها من مناقشة الموازنة في المجلس النيابي، هي أن هدفهم من انتقادها وتفنيدها تبرئة ذممهم وقواهم السياسية منها قبل إقرارها. فكلماتهم تثبت أن الموازنة بغيضة ومكروهة، كأنما القوى السياسية لم تشارك في وضعها. أو أن يداً خفية فرضتها عليهم والزمتهم بها. تراهم يتحدثون عن الهدر والفساد، كأنما الموغلون فيه أشباح، وليسوا أناساً بهويات وانتماءات واضحة. أو كأن الضرائب واقتطاع رواتب الموظفين لتمويل عجز الدولة، فرضتهما كائنات فضائية، ولم تتفق عليهما القوى المشاركة في سلطة الدولة وإدارتها. أي كأنما الموازنة عمل لقيط.
وإذا كان معظم الذين تولوا الكلام يمثلون الطيف السياسي برمته يرفضون هذه الموارنة ويجاهرون في مخالفتها للدستور، ويتباكون على تحميل الطبقات المتوسطة والفقيرة تبعاتها التقشفية، لاعنين عدم التطرق لأبواب الهدر والفساد لتمويل الدولة، فحري بالمواطن مساءلتهم عن الدوافع التي تجعلهم يقرّونها، بدل نسفها وإعداد غيرها انطلاقا من نقاشاتهم "الإصلاحية".
وقائع الجلسة
جرياً على النقاش الذي حصل في الجلسة الأولى يوم الثلاثاء، توالى النواب على نقاش الموازنة وتفنيدها في الجلسة الثانية ليوم الأربعاء مستعيبين إقرار هذه الموازنة المخالفة للأسس الدستورية. واعتبروا أنها أتت من دون قطع حساب عن موازنة العام 2018 وبعد أشهر سبعة عن موعدها الدستوري. وإذا كانت انتقادات النائبة بولا يعقوبيان للموازنة محقّة في كونها ستُموّل على حساب جيوب المواطنين، من دون إقفال أبواب الهدر والفساد، خصوصاً أن نائبة بيروت حديثة العهد في الندوة البرلمانية ولا تنتمي إلى القوى السياسية التي وضعت بنود الموازنة. أما المستغرب فأن تتوالى "الطعنات" في ظهر الموازنة من النواب المنتمين إلى القوى السياسية التي تنتمي إلى السلطة التنفيذية التي أعدّت مشروع الموازنة بنداً بنداً. فتحت ذريعة "موازنة الضرورة" وتلافي الانهيار أعلن النواب موافقتهم على الموازنة رغم أن ما قالوه فيها يفرض عليهم رفضها ورميها في أقرب سلة مهملات.
أطنان النفايات
افتتحت الجلسة الصباحية بكلمة النائبة يعقوبيان، فاعتبرت أن تصويت النواب ضد الموازنة يفرض على كتلهم السياسية الاستقالة من الحكومة، كون الاعتراض على الموازنة من داخل الحكومة تضليل للبنانيين. وانتقدت تمويل الموازنة من خلال فرض الضرائب واقتطاع معاشات الموظفين وعدم فتح ملفات الهدر والفساد في إدارة الجمارك والضمان الاجتماعي والمقالع والسكرات والتعدي على الأملاك البحرية والنهرية، وسواها من المخالفات التي تضيّع على الدولة أموالاً طائلة. وتطرقت إلى ملف النفايات معتبرة أن هناك رغبة لدى القوى السياسية في عدم اللجوء إلى حل أزمة النفايات من خلال فرزها من المصدر، لأن المتعدين يريدون زيادة عدد أطنان النفايات لرفع أرباحهم، معلنة حجب الثقة عن الموازنة.
ليست للإصلاح
من ناحيته استغل النائب في كتلة التيار الوطني الحر فريد البستاني الفرصة لإعلان تحفظه على ميزانية مجلس الانماء والاعمار، كونها لم تخصص الأموال لاستكمال بناء مستشفى دير القمر، في محاولة منه لكسب تأييد شعبي مناطقي بين ناخبي دائرته في قضاء الشوف. ورغم مجاهرته بأن الموازنة ليست موازنة نهوض أو إصلاح، وكيله الانتقادات للدولة التي باتت "مجرد شرطة سير بين الدويلات الموجودة"، صوّت بالموافقة عليها، بحجّة تلافي الأسوأ، رغم رفضه إياها.
حقوق الانسان
بدوره أنتقد عضو تكتل "الجمهورية القوية" النائب جورج عقيص الموازنة كونها "بلا قطع حساب، وأتت من خارج المهلة القانونية وتفتقد مبدأ الشمولية".
وعن موقف القوات اللبنانية من الموازنة أعتبر أن "البعض يعيب على تكتله (القوات اللبنانية) مشاركته في الحكومة وتصويته ضد الموازنة. وإذا أردنا إجراء مقارنة بين التناقضات، أيهما متناقض أكثر: من يقدم خطاب هجاء ضد الموازنة ثم يصوت عليها، أم الكتلة التي لم تترك فرصة للتغيير في هذه الموازنة إلا وفعلتها ولم تفلح، فقرر هذا الفريق السياسي أن هذه السياسة المالية لا تناسبنا". وقال: "ببساطة موازنة ليس فيها قطع حساب لا شيء يجبرنا التصويت عليها".
وأضاء عقيص على ضرورة الاستثمار في حقوق الانسان. فالدولة اللبنانية التي لا تمتلك موارد واقتصاد قوي يجب أن تستثمر في حماية الحقوق العامة والإنسان. ويجب أن توقف التعذيب في السجون وملاحقة النشاطين على وسائل التواصل الاجتماعي. ودعا إلى تنقية الجسم القضائي ورفع الحصانة عن القضاة الفاسدين، وإقرار قانون عصري حديث لاستقلال السلطة القضائية.
حقوق المرأة
أما النائب عناية عز الدين في كتلة حركة أمل فخصصت كلمتها لمنح المرأة حقوقها في الحضانة (مستوحية حادتة نواف الموسوي الأجيرة) وفي حماية حقوق الطفل وتعديل القوانين التي تحمي المرأة، وطالبت "بالإسراع بإبداء الرأي في القوانين التي تتعلق بالمرأة"، مؤكدة أن "حماية المرأة يجب أن تكون في لائحة أولويات المجلس النيابي والحكومة".
جمعيات وهمية
النائب شامل روكز في كتلة التيار الوطني الحر أمعن في انتقاد الموازنة كأنما كتلته السياسية لم تكن خلف بنود الموازنة. واعتبر أن الأزمة الاقتصادية خطيرة ولا تواجه بموازنة قائمة على الحسابات، لافتاً إلى أن التقشف ليس حلاً ويجب ألا تكون على حساب المواطن. ولفت إلى أن أخطر ما في الموازنة هو استهداف ذوي الدخل المحدود والطبقة الوسطى بالضرائب غير العادلة والرسوم. وانتقد الحديث عن الفساد والهدر من دون وضع اليد على ملفات الجمارك والمرفأ والكازينو والمطار والميدل إيست، والأملاك النهرية والبحرية، والمعابر غير الشرعية. وانتقد ضرب قطاعات الدولة بتخفيض ميزانية الجامعة اللبنانية والقضاء والقوى الأمنية، عوضا عن وقف الهدر والفساد وتمويل جمعيات وهمية وإجازات مباني حكومية خيالية.
حسابات الدكنجي
أما النائب وهبة قاطيشا فدعا إلى خصخصة القطاعات العامة كي تصبح منتجة إسوة بما هو معمول به في جميع الدول. وأعلن عن تحفّظ القوات اللبنانية على البنود غير الإصلاحية في الموازنة، معتبراً أنها تخدير ولا تحاكي تطلعات الناس. وأضاف أن الموازنة أشبه بحاسبات الدكنجي، وستنتهي مفاعيلها عند أول استحقاق، بينما كان يجب التصدي للفاسدين وناهبي المال العام.
ولفت إلى أن الدولة تخلت عن مقدراتها لصالح بعض المنتفعين والنافذين، منتقداً بقاء بعض القطاعات بعيدة من سلطة المحاسبة. وتطرق إلى ملف مرفأ بيروت منتقداً إدارته من قبل لجنة لا صفة رسمية لها، ووجود رواتب للموظفين تفوق الخيال، معتبراً أن ما يحصل في المرفأ نهب المال العام وعلى مسمع الجميع، كاشفاً عن أن بعض رجال الأمن جنى أموالاً طائلة من المرفأ. وعن المعابر غير الشرعية قال إن الحدود اللبنانية مكشوفة والجيش اللبناني استطاع من حمايتها من الإرهابيين ويستطيع حمايتها من المهربين. وتساءل هل هي محمية من بعض رجالات الدولة؟ ولفت إلى أن نحو تسعين في المئة من البضائع المهربة تمر عبر المعابر الشرعية بواسطة بيانات مزورة كانما الدولة باتت "دولة البيانات المزورة".
موازنة قاصرة
بدوره انتقد النائب زياد الحواط الموازنة ووصفها بالقاصرة عن انتشال لبنان من أزمته الاقتصادية والمالية، وغير مقرونة برؤية واضحة للسياسة الاقتصادية.
ومثل باقي النواب رأى الحلول في مكافحة التهرب الجمركي والتهريب عبر المعابر الحدودية... واشراك القطاع الخاص في الاستثمار في قطاع الاتصالات، داعيا الى إعادة النظر جذريا بطريقة إدارة هذا القطاع.
نهب منظم
بدوره اعتبر نائب حزب الله إبراهيم الموسوي أن الحكومة في مشروع الموازنة ذهبت إلي اقتطاع معاشات ورواتب الموظفين ولم تذهب إلى القطاعات التي تؤمن دخلاً للدولة، لافتاً إلى وجود نهب منظم لمواردها ومقدراتها. وعدد ما اسماه مزاريب الهدر التي تستطيع تأمين تمويل الموازنة بعيداً من المس بجيوب الناس.
بلا رؤية
أسوة بزملائه في القوات اللبنانية لفت النائب انطوان حبشي إلى أن الموازنة غير قائمة على رؤية اقتصادية اجتماعية طويلة الأمد، داعياً إلى التوجه نحو إصلاحات حقيقية في بنية الدولة وإلى القطاعات التي تعود عليها بالأموال.
لا عدالة في المعايير
بدوره اعتبر النائب أسامة سعد أن الموازنة المعروضة هي موازنة أرقام لا ترقى إلى مستوى ما يتعرض له لبنان من تحديات، ولا تراعي القواعد القانونية ولا تتوفر فيها معايير العدالة، ولا تحمل رؤية لتطوير القطاعات الانتاجية كالزراعة الصناعة وغيرها. ورأى أن "الحكومة تلجأ إلى التفتيش في جيوب الفقراء ومحدودي الدخل".
وليد حسين - المدن