مرّت العلاقة اللبنانية السعودية بالكثير من النكسات، وتعرّضت للعديد من التشنجات، أدت إلى تراجع سياسي على الساحة اللبنانية من قبل المملكة العربية السعودية ومن قبل حلفائها. الإختلافات في تحديد المسؤوليات عن ما جرى طوال السنوات السابقة، لا يزال متفاعلاً، وأسباب استمراريتها هي عدم وجود نقاش جدي وعميق وهادف، من أجل إزالة كل ترسبات المرحلة السابقة. الإتهامات متبادلة بين الحلفاء.
العتب وانعدام الثقة
منذ العام 2009، وتحديداً بعد الانتخابات النيابية، اعتبر تيار المستقبل والحلفاء أن المملكة أوقفت الدعم السياسي والمالي عنهم، الأمر الذي جعلهم يدخلون في حسابات صعبة، واضطروا إلى تسويات قاسية لصون وجودهم والحفاظ على حضورهم. وفي المقابل، كان للسعودية عتب كبير على حلفائها اللبنانيين لإخفاقهم في استثمار كل الدعم الذي قدمته لهم. فرغم انتصارهم في الانتخابات النيابية عام 2009، عادوا إلى التسوية مع حزب الله.
تلك التباينات السياسية والإختلاف في وجهات النظر، معطوفة على التحولات الإقليمية، دفعت إلى إعادة إنتاج معادلة "السين - سين" (سوريا، السعودية)، فانتهت عندها حقبة 14 آذار، وتوزع كل فريق باتجاه بحثاً عن مصالحه. بعدها، استمرت أزمة انعدام الثقة بالتفاعل، مع تكليف الرئيس تمام سلام تشكيل الحكومة، بعد استقالة الرئيس نجيب ميقاتي. حينها، بدا وكأن السعودية تستعيد نشاطها اللبناني، رغم الشعور بفوات الأوان واستتباب الأمر لحزب الله على الساحة اللبنانية. وما بقي وحسب هو الحدّ الأدنى من التوازن.. الذي انعدم مع حصول التسوية الرئاسية.
العودة إلى لبنان
واستمر تعاظم أزمة الثقة. فلا تعتبر السعودية أن اللبنانيين قدموا لها شيئاً، فيما هم يعتبرون أنها هي التي تخلّت عنهم. وما بين الفرضيتين، كانت السعودية تنهمك بملفات أخرى أكثر أهمية بالنسبة إليها. لكنها بين فترة وأخرى، حاولت العودة إلى المشهد اللبناني في استحقاقات أو محطات سياسية متعددة. اصطدمت على الأغلب بتضارب المصالح بينها وبين حلفائها، على رأسهم الرئيس سعد الحريري، الذي فضّل التعامل بواقعية مع الخصوم، وتجنب أي صدام.. وصولاً إلى أزمة استقالته من الرياض، والندوب التي طبعت العلاقة معها.
قدّمت السعودية، في الفترة الأخيرة، إشارات متعددة توضح من خلالها اهتمامها بالحضور مجدداً في المشهد اللبناني، من رفع التحذير عن سفر السعوديين إلى لبنان، إلى جولة مجلس الشورى، ومؤخراً الدعوة التي وجهت إلى رؤساء الحكومات السابقين، لزيارتها. ما يوحي بأن هناك استعداداً سعودياً للعودة إلى المشهد اللبناني. كما أن هذه الدعوة التي سيلبيها رؤساء الحكومات، وقد توجه أيضاً لغيرهم من الشخصيات السياسية، قد تؤشر إلى بداية تحول في الموقف.
الدعوة الموجهة إلى رؤساء الحكومات السابقين للقاء الملك، تحمل في توقيتها وشكلها تعبيراً سياسياً قوياً. ومن المفترض أن يقدّم الرئيس فؤاد السنيورة وجهة نظر متكاملة على الصعيد السياسي، تندرج في خانة البرنامج السياسي الشامل. وهذا الأمر نفسه ينطبق على الرئيسين تمام سلام ونجيب ميقاتي. لم يكن فؤاد السنيورة من الأشخاص الذين يذهبون إلى السعودية بشكل مباشر أو متكرر، بل كانت هذه المهمة تقع على عاتق الرئيس سعد الحريري. والمختلف هذه المرّة، أنه يذهب بصفته الشخصية كفؤاد السنيورة المتمايز لغة وتعبيراً وأداء، أي بصفة مستقلة عن تيار المستقبل والكتلة النيابية. وهذه لها دلالة بالغة في سياق العتب المستمر والمكتوم بين السعودية والحريري. الهدف، بحدّه الأدنى، سيكون لدعم شد عضد هذه القوى التي تريد الحفاظ على الطائف، ووقف مسار التنازلات.
بحثاً عن برنامج سياسي
يأتي توقيت الزيارة بعد لقاءات متعددة عقدت بين رؤساء الحكومات السابقين والحريري، الذي اتخذ موقفاً واضحاً في الأيام الأخيرة، رفضاً لتقديم المزيد من التنازلات، وتمسكاً بصلاحياته إلى أقصى الحدود، لا سيما بعد ما جرى في قبر شمون، ومطلب إحالة الملف إلى المجلس العدلي. لذا، يُفترض أن تعطي الزيارة إنطباعاً وإيحاءً واضحين، حول التحول في النظرة السعودية وأدائها تجاه لبنان، بشرط الإقلاع عن الكلام المنمق والمستهلك، حول أهمية العلاقات وضرورة الحفاظ عليها.. ومباشرة الحديث عن برنامج سياسي واضح، بملئ الثقة والموضوعية، والنقاش العملي المستفيض. فاقتصار الزيارة على البروتوكوليات الشكلية، لن يؤدي إلى إحداث أي تغيير.
في السعودية، ثمة نمط جديد يقوم على مبدأ تبادل المصالح. ولم يعد يجدي مبدأ انتظار السعودية أن تقدّم الدعم والمال من دون أي مبادرة لبنانية، خصوصاً أن نمط التعامل الذي اختلف عن السابق، هو الترابط بين السياسي والاقتصادي، ما يفرض على اللبنانيين وضع خطط وتصورات حول كيفية التعاون معها، وليس فقط انتظارها لـ"إغداق الأموال". بمعنى آخر على اللبنانيين أن يقدموا مشروعاً وتتكفل هي بالمساعدة على إنجازه. ويذهب الرؤساء الثلاثة بنية معرفة حقيقة الموقف السعودي تجاه لبنان، وإذا ما كان هناك نية للمساعدة على تحقيق التوازن السياسي المختل الآن لصالح حزب الله وحلفائه. كما أنهم سيستعرضون الأحوال التي وصل إليها الوضع في البلاد، لا سيما أن لقاءهم الأخير مع الحريري كان فيه نوع من الصراحة التامة بأن الوضع لم يعد يحتمل. وقد أبدى الحريري انزعاجه الشديد من طريقة التعاطي معه من قبل شركائه في التسوية.
دول الطوق
لا شك أن هناك خيبة سعودية حيال الوضع اللبناني. وقد يلوم السعوديون لبنان الذي لا يعرف سوى مبدأ الأخذ من دون عطاء مقابل. ولكن هناك إشكالية أخرى بالمعنى السياسي، تتعلق بالانسحاب السعودي من المشرق. فحتى لو تم التسليم جدلاً أن اللبنانيين قد طعنوا السعودية في ظهرها بعد كل ما قدّمته، إلا أن ذلك لا يغفل وجود إشكالية سياسية في كيفية التعامل مع أزمات المنطقة، لأن الانسحاب السعودي من لبنان لم يكن وحيداً، بل ترافق مع انسحاب كلي من سوريا، وغياب أي دور مؤثر داعم للثورة السورية. فمن المفترض أن يكون في حسابات المملكة، أن لبنان وسوريا والعراق، هي حصون دفاع أولى عنها. وبتراجعها وانسحابها من هذه الدول، وانتهاج سياسة إدارة الظهر للاهتمام بمناطق جغرافية أكثر قرباً منها كاليمن، أدت إلى فتح معارك على حدودها وداخل أراضيها. بينما لو استمرت في سياستها في لبنان وسوريا، لكنت بقيت المعركة على هذه الأرض، ولم تقترب من أراضيها.
هذا النوع من اللقاءات، لن يؤدي وحده إلى استعادة السعودية زمام المبادرة والحضور بقوة في المشهد. هذا لا يتحقق من خلال الزيارات فقط، إنما قد تشكّل مقدمة لبرنامج سياسي واضح، يقوم على التنسيق بين مختلف القوى، لتأمين حماية النفوذ في دول الطوق (سوريا، لبنان، العراق، الأردن، واليمن) من أجل استعادة التوازن مع إيران، وإبعادها عن العمق السعودي.
منير الربيع - المدن