تُركّز الدبلوماسية الفرنسية في أدبياتها على أهمية لبنان كنموذج. تعتبر أن التعددية فيه مثال يُحتذى للتعايش السلمي. لذلك، تعتقد أنه يجب الحفاظ على هذا البلد وحمايته في عالم يتهدده صراع الأديان والحضارات، والتطرف ونزعة إقصاء الآخر.
هذا الخطاب الفرنسي قديم ويتكرر باستمرار. وتجلّى في أبرز تحديثاته خلال مؤتمر "سيدر" في شهر أبريل/نيسان 2018، عندما ربط الرئيس إيمانويل ماكرون بين سعي فرنسا لما يعتبره مساعدة لبنان اقتصادياً ـ وهو ما يرى فيه البعض محاولة لمنع انهيار لبنان مالياً واقتصادياً ـ وبين إيمانها بأهمية التنوع والتعددية في هذا البلد النموذج.
ذهول ماكرون
لعل ماكرون يتساءل مذهولاً اليوم عن أي نموذج كان يتحدث، عندما يتلقى التقارير الدبلوماسية والإعلامية عن حال صراع القوى السياسية الممثلة جميعها في السلطة. وهو الصراع الذي بات يعيق أو يعطل عمل "حكومة الوحدة الوطنية"، ويهدد ربما بسقوطها، ما يعرقل عملية الإصلاحات المطلوبة لتفعيل مقررات مؤتمر "سيدر". وكذلك التقارير عن إفراط القادة السياسيين بممارسات تنسف فكرة التعايش السياسي السلمي في المجتمع اللبناني.. وعن جمهور لم تُتَح له فرصة تجاوز الأحقاد الموروثة من حقبة الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، ولم يتم إشراكه (عن قصد) في المصالحة الوطنية، إلا بشكل فضفاض. وهو بالتالي لم يتحرر من نزعة نبذ الآخر بعد، أو على الأقل، الحذر من الآخر.
أوهام فرنسية
إبداء ماكرون لعلامات استفهام وتعجب حيال ما يجري هذه الأيام في لبنان، إنْ حصل، هو أكثر من مبرر. لأن هذا الرئيس الفرنسي، شأنه شأن أسلافه وغالبية المسؤولين الفرنسيين، ينظر إلى لبنان باعتباره مختبراً لتجربة فريدة في تكريس الوفاق السياسي الداخلي والتعايش بين الأديان والطوائف. ويأمل، بالتالي، في تعميم هذه التجربة في منطقة الشرق الأوسط والعالم.
وقد لفت ماكرون في كلمته الختامية في مؤتمر "سيدر" العام الماضي، إلى أنه يترتب على القادة اللبنانيين "مسؤولية غير مسبوقة"، تتمثل في "الحفاظ على هذا الكنز" الذي يمثله لبنان في المنطقة، وذلك "من خلال تلك القدرة التي تجعل كل طرف يتمثّل (بالحكم)، أياً يكن دينه، وتوجهه السياسي، أو أصله. والقيام بكل ما لديكم من سلطة لكي يشكل هذا النموذج، بنجاحاته، مصدر إلهام للآخرين". وقال: "نحن سنواصل العمل من دون كلل، في كل المنطقة، من أجل أن تصبح هذه التعددية وهذه القدرة الدؤوبة على بناء السلام، نموذجاً (...)".
بعد أكثر من سنة على هذا الخطاب، لا بد من التساؤل عما إذا كانت الدبلوماسية الفرنسية مأخوذة بأوهام، تُبدّدها تناقضات الواقع اللبناني الذي لا يمكن فصله عن الواقع الإقليمي؟ من جانب آخر، ألم يكتشف الرئيس الفرنسي وحكومته مدى حجم الخداع والمواربة لدى القادة اللبنانيين بعد؟ ألم يخب أمله منهم بعد؟ أم أن الخطاب الدبلوماسي الفرنسي هو بدوره جزء من لعبة مخادعة لا بأس من المشاركة بها، طالما أنها لا تضرّ بالمصالح الفرنسية في لبنان والمنطقة؟
رهان خاسر
في الواقع، لا يتعلق الأمر بأوهام فرنسية بقدر ما يتعلق برهان خاسر. فالحديث عن لبنان النموذج والمثال يندرج فعلياً في خانة الطموح الدبلوماسي الفرنسي، لدحض المزاعم باستحالة التعايش السياسي في مجتمع يقوم على تعدد الأديان، وتلك التي تنفي إمكانية التعايش بين الشرق والغرب، وما يرتبط بذلك من مسائل لا تبدأ من الأمن والتطرف والإرهاب ولا تنتهي بالهجرة.
إلا أن تجسيد هذا الطموح يتطلب توفر إرادات جميع الأطراف المعنية بالشأن اللبناني. أي يتطلب جهوداً لبنانية جدية في هذا الاتجاه. ويشترط وجود مناخ إقليمي ملائم، بعيداً عن سياسات النفوذ والتدخل في الشؤون الداخلية للدول. لكن هذا ما لم يحصل عام 1958 حين تحوّل لبنان إلى ساحة صراع بالوكالة بين حلفاء المحور الأميركي وحلفاء المحور القومي العربي، ثم عام 1975 حين انفجر الوضع اللبناني مُقدّماً "تجربة نموذجية" في الحروب بالوكالة، وذلك على خلفية الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. وهذا ما لن يحصل اليوم في ظل عدم اتعاظ القادة اللبنانيين من عِبَر الماضي الأليم، وعدم وجود دينامية تعاون سلمي في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بين السعودية وإيران، وكذلك في ظل غياب أي حل سلمي عادل ونهائي للمسألة الفلسطينية، يُعيد للفلسطينيين حقوقهم المشروعة. بمعنى آخر، لا يمكن لفرنسا أن تتجاهل صعوبة عزل لبنان عن الصراع الإقليمي، لا سيما حين يدخل هذ الصراع في مرحلة من التوتر الشديد، كما هو حاصل اليوم. وهي تدرك بالتالي، خائبةً، أن تحويل لبنان إلى نموذج حقيقي للتعددية والتعايش السلمي سيبقى حبراً على ورق حتى إشعار آخر.
نبيل الخوري - المدن