عندما تشددت الولايات المتحدة الأميركية في عقوباتها على إيران، كانت تريد لطهران أن تذهب في اتجاه سلوك طريق المفاوضات. رُفض الأمر إيرانياً، وتقرر التصعيد. لكن واشنطن أصّرت دوماً على عدم سعيها إلى مهاجمة النظام الإيراني، ولا إلى الدخول في مواجهة، بل إلى إعادة صوغ الاتفاق النووي بشروط جديدة.
اليوم تفيد المؤشرات كلها أن ثمة تغيراً طرأ على آلية التعاطي الأميركي مع إيران: توسيع رقعة التشدد ضد إيران إلى ساحات بديلة. ومن الواضح أن الأميركي لجأ إلى استخدام الأسلوب إياه الذي يستخدمه الإيراني: الإصرار على إلحاق الأذى بإيران، والتسبب بإيلام حلفائها، تماماً كما عملت إيران على إيلام حلفاء واشنطن في الخليج.
لبنان ساحة بديلة
هذه التطورات أرخت بظلالها على الساحة اللبنانية. وهذا ما تجلى بوقف مسار مفاوضات ترسيم الحدود اللبنانية الجنوبية بواسطة أميركا. هذا إلى جانب التحذيرات الدولية للبنان من إنهيار اقتصادي أو مالي في الفترة المقبلة، فيما تؤكد المعلومات وجود تصنيف سلبي جديد في شأن الواقع الاقتصادي اللبناني.
وسط هذه الأجواء يأتي القرار الأميركي الجديد: فرض عقوبات على قياديين بارزين في حزب الله، وبينهم النائبين محمد رعد وأمين شرّي. القرار الأميركي يبدو في تفاصيله مغايراً لكل القرارات الأميركية الصادرة والمتعلقة بفرض عقوبات على حزب الله. فالقرار الجديد يتحدث عن ممارسات المشمولين بقرار العقوبات، للضغط على المصرف المركزي ولتطويع مرافق لبنانية تخدم حزب الله مالياً وسياسياً. وهذا ما اتهم به النائبان رعد وشري بوضوح، بينما اتهم مسؤول وحدة الإرتباط والتنسيق في الحزب وفيق صفا بأنه عمل على تسهيل مصالح الحزب على الموانئ والمعابر الحدودية اللبنانية بعيداً من سلطة الدولة.
تعطيل التسوية الرئاسية؟
يتضمن القرار أيضاً تحذيراً إلى الدولة اللبنانية حول ضرورة مقاطعتها التعامل مع حزب الله. وهذا يحمل في مضامينه رسالة تحذيرية إلى القوى السياسية اللبنانية كلها بوجوب عدم تعاطي مؤسسات الدولة مع الحزب. مصادر لبنانية ترى أن هذه الرسالة تنطوي على شنّ حرب سياسية على الدولة والبرلمان والشعب اللبناني، أو أنها دعوة أميركية إلى تعطيل مفاعيل التسوية السياسية التي أوصلت العماد عون إلى سدة رئاسة الجمهورية ومندرجاتها، وتعطيل عمل مجلسي النواب والوزراء.
ولذا، بدا الرئيس عون حذراً جداً في رد الفعل، فكان البيان الصادر من بعبدا مجرد تعبير عن "أسف": "هذا التدبير الذي يتكرر من حين الى آخر يتناقض مع مواقف أميركية سابقة تؤكد التزام لبنان و القطاع المصرفي فيه، الاتفاقيات الدولية المتعلقة بمكافحة تبييض الأموال ومنع استخدامها في اعتداءات إرهابية، أو في غيرها من الممارسات التي تعاقب عليها القوانين .إن لبنان إذ يأسف للجوء الولايات المتحدة الأميركية إلى هذه الإجراءات، لاسيما لجهة استهداف نائبين منتخبين، سوف يلاحق الموضوع مع السلطات الأميركية المختصة ليبنى على الشيء مقتضاه".
وفي الوقت نفسه، أخذ الرئيس سعد الحريري مسافة بعيدة من الحزب حين علّق قائلاً: "المهم أن نحافظ على القطاع المصرفي وعلى الاقتصاد اللبناني".
استهداف حلفاء الحزب
هذه العقوبات لا بد من أن يكون لها مروحة من التأثيرات المعنوية على الأقل. فهي لا تستهدف الأشخاص، بل من يتعاطى معهم. والرسالة الأميركية في متن نص القرار واضحة: على الدولة اللبنانية مقاطعة هؤلاء الأشخاص. ما يعني أن للقرار دلالة واضحة في اتجاه إحتمال اتساع رقعة العقوبات، ورفع منسوب تنبيه الدولة اللبنانية في مسألة التعامل مع حزب الله. وتتوقع المصادر إمكان أن تشمل العقوبات شخصيات أخرى من خارج جسم الحزب، أي حلفائه، وقد تطال مسؤولين ونواباً ووزراء.
باسيل وأبوصعب
العقوبات على الحزب مفروضة أساساً، فلماذا يُدرج على لائحتها نواب منه في البرلمان، إذا لم يكن هذا الإجراء يمهد لإجراءات أخرى مماثلة تطال مسؤولين آخرين من خارج الحزب وبيئته المباشرة، أو تحذر الحكومة اللبنانية من إمكان أن تشملها العقوبات؟ طبعاً هذا المسار سيبقى مرتبطاً بمدى استمرار التصعيد. وهذا الكلام لا ينفصل عن تقارير أميركية سابقة تفيد أن واشنطن بصدد إدراج أسماء مسؤولين لبنانيين على لوائح العقوبات. ودار كلام في تلك الفترة على عقوبات تشمل نواب ووزراء من حلفاء الحزب. قد لا يحصل ذلك حالياً ولا في الفترة القريبة، ولكن هذا الأمر وُضع على السكة. وسابقاً حصل أن زارت وفود لبنانية عديدة واشنطن، لمحاولة تجنيب فرض العقوبات على النواب والوزراء اللبنانيين. ورشح آنذاك أن العقوبات قد تطال الوزير جبران باسيل والوزير الياس بو صعب، إضافة إلى آخرين. لكن المحاولات اللبنانية نجحت باستبعادهم عن اللائحة (مؤقتاً؟).
من الواضح أن هناك إنتقال إلى فصل جديد من التعامل الأميركي مع لبنان. وهذا المسار يشمل تفاصيل كثيرة، منها أشكال إدارة الأوضاع والشؤون اللبنانية. فاستراتيجية التعامل الأميركية واضحة لجهة التدرج في اتخاذ القرارات. وقد لا تظهر النتائج سريعاً. وهذا ما يثير قلق المستهدفين ويؤثر سلباً على المسار السياسي في البلاد، لا سيما أن هناك قوى سياسية تعتبر أن ميزان القوى سيتغير مستقبلاً. وواشنطن لن تتراجع عن شروطها على إيران، ولا بد لها ولحلفائها من تقديم الكثير من التنازلات لتجنب الضربة أو الخنق الإقتصادي الذي لم يعد محتملاً.
وربما الدولة برمتها
البعض يعتبر أن العقوبات ومسارها سيؤديان إلى اضطراب سياسي في البلاد. فحزب الله سيطالب بموقف رسمي تصدره الحكومة اللبنانية، لإدانة العقوبات. وهذا لن يكون وارداً لدى قوى سياسية لبنانية معروفة ووازنة، ما قد يسهم في توتير الأجواء الداخلية. أما إذا قررت الحكومة إدانة القرار الأميركي المحتمل، فبالتأكيد سيؤدي ذلك إلى فرض عقوبات على الدولة اللبنانية برمتها.
الحكومة ستحاول أن تحيّد نفسها قدر الإمكان. لكن المصادر تؤكد أن القرار الأميركي المحتمل سيشدد على وجوب قطع الحكومة اللبنانية صلتها بحزب الله. وهذا ما لن تكون الحكومة قادرة على تنفيذه، ولكنها لن تكون قادرة أيضاً على فعل العكس.
وتؤكد المعلومات أن الأميركيين في المرحلة المقبلة سيكونون متشددين أكثر مع لبنان، من دون أي مراعاة للوضع اللبناني، خاصة إن الإجراءات ستكون بعيدة المدى، ويريد الأميركيون أن تكون منطلقاً لعزل حزب الله في الداخل، على أن يكون المسار متدحرجاً ككرة ثلج.
منير الربيع - المدن