بات التوسّع في شرح أزمة الكهرباء في لبنان مملاً. فزبدة الكلام اليوم ليست حول وجود الأزمة، بل حول إبداعات الساسة في تعقيدها، وخلق أزمات رديفة تزيد عمق الأزمة الأم، وهي تدمير مؤسسة كهرباء لبنان تمهيداً لخصخصتها. وآخر الإبداعات بطلها وجه سياسي اقترن إسمه بأزمة الكهرباء منذ العام 2010، وهو وزير الخارجية جبران باسيل، الذي لا يترك مناسبة إلاّ ويقفز خلالها من ملف إلى آخر، متناسياً أنه وزير خارجية، ومجال اهتمامه أثناء توليه تلك الوزارة، محصور بحدود صلاحياته كوزير للخارجية.
واللافت أن باسيل قرر توجيه سهامه باتجاه الطرابلسيين، الذين حاول جاهداً استمالتهم لتشكيل حشود لاستقباله أثناء زيارته للمدينة الشمالية. غير أن أبناء المدينة "كسروا خاطره"، فلوّح باسيل لهم بأنه يمتلك بين يديه ورقة ضغط تمسّ حلم الطرابلسيين بكهرباء 24/24 أسوة بأهل زحلة.
عرقلة مشروع نور الفيحاء
لم يخفِ وزير الخارجية جبران باسيل وقوفه خلف عرقلة إنجاز مشروع "نور الفيحاء"، الذي يفترض به تأمين الكهرباء لأهالي طرابلس وبعض المدن الشمالية، على غرار مشروع كهرباء زحلة. وتجسّدت العرقلة وفق ما تقوله شركة نور الفيحاء، بوضع وزارة الطاقة "الملف بكامله قيد الحفظ".
وفي بيان للشركة أصدرته يوم الثلاثاء 9 تموز، فإن وزير الطاقة السابق سيزار أبي خليل أكد للشركة أن الملف سيُعلّق "لحين إعداد دراسة تشمل واقع قطاع الكهرباء في لبنان". لكن بعد إقرار وزيرة الطاقة ندى بستاني لخطة الكهرباء، التي تتضمّن تفصيلاً وافياً لواقع الكهرباء في لبنان، لا يزال ملف نور الفيحاء عالقاً في أدراج الوزارة. وهو ما تستغربه الشركة، التي رأت أن هذا الإجراء "من شأنه إبقاء طرابلس والشمال قيد الحرمان والعتمة المستمرة".
عرقلة المشروع برّرها باسيل، في مقابلة تلفزيونية يوم الإثنين 8 تموز، برفضه "فدرلة مشاريع الطاقة"، أي رفض تأسيس شركات خاصة للكهرباء في المناطق اللبنانية، وتأسيس فيدراليات للكهرباء. علماً أن وزارة الطاقة كانت موافقة على المشروع في خطواته الأولى، وعلى أساس الموافقة، وبعد إتمام إجراءات التأسيس، حسب ما تقوله الشركة "تم التواصل مع المسؤولين في شركة كهرباء قاديشا وشركة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة، وتم إعداد الطلبات والدراسات الفنية اللازمة وتقديمها لجانب شركة كهرباء لبنان، التي قامت بدراستها مشكورة. وعقدت بنتيجتها اجتماعات بين الطرفين، تم خلالها مناقشة هذه الدراسات وبحث كافة الإجراءات اللازمة الآيلة إلى وضع هذا المشروع موضع التنفيذ". فما الذي حصل لتنقلب الأمور رأساً على عقب؟.
بنظر الشركة، هناك "كيدية موصوفة في التعامل مع موضوع شركة نور الفيحاء، وأي مشروع يخص طرابلس تحديداً على رغم الكلام المعسول تجاهها. أما الحديث عن "فدرلة الكهرباء" فمردود، لأن من قال بـ"عدم الفديرالية" هو الذي سعى إليها من خلال بناء معامل حيث لا تدعو الحاجة لذلك، ومعمل سلعاتا هو خير مثال".
فيدرالية بمكيالين
رفض الفيدرالية ليس سوى كلام معسول، لأن العرف السياسي في لبنان يقوم على فدرلة كافة المشاريع بين أحزاب السلطة وزعاماتها. ومشاريع الكهرباء منذ العام 2010، خير مثال على هذه السياسة. وكلمات المقالات والتحقيقات الصحافية لم تعد تتّسع لتعداد أشكال التحاصص بين أطراف السلطة، وخصوصاً محاصصات التيار البرتقالي في قطاع الكهرباء. ويكفي أن بواخر الطاقة وشركات مقدمي الخدمات يلقون مراسيهم في البحر وعلى أعمدة الكهرباء.
نفور باسيل من الفيدرالية لم يظهر حين كانت فيدرالية أسعد نكد بزحلة حليفة انتخابية. تلك الفيدرالية التي تبسط نفوذها كمشروع خاص رغم وجود مؤسسة عامة للكهرباء، هي مؤسسة كهرباء لبنان. كما أن حساسية الفيدرالية لم تتحرّك تجاه كهرباء قاديشا مثلاً، هذا إن حيّدنا بواخر الطاقة من حسابات الفدرلة، رغم أنها تحمل مواصفات المشاريع الخاصة ذاتها التي يستعملها باسيل لتشخيص الفيدرالية. فهل نحن أمام مكيالين ومعيارين وتصنيفين، أم أننا أمام معيار واحد، عماده "فلتر" لا يرضى بقيام مشروعٍ لا يحظى بضوء أخضر باسيلي؟
توحيد المشاريع
بلا شك، تستنزف مشاريع الكهرباء الخاصة المواطنين والدولة معاً، سواء كانت المشاريع مولدات خاصة صغيرة للأحياء والقرى، أو مؤسسات كبيرة تغذي مناطق واسعة. والحل واضح لا يحتمل التورية: وقف الهدر وإصلاح مؤسسة الكهرباء.
هذا الحل لا يتوافق مع مصلحة قوى السلطة، وخصوصاً التيار البرتقالي المنتسب إلى نادي السلطة متأخراً، ويريد تعويض ما فاته من محاصصات. ففي مشاريع الطاقة، يرفض هذا التيار الفيدرالية، لكن رؤيته "التوحيدية" تحتاج إلى تدقيق في أهدافها ونتائجها. فوحدوية التيار مارست المهادنة كخطة تكتيكية للوصول إلى الهدف الاستراتيجي، وهو مشروع كهربائي "خاص" يمسك التيار بمفاصله. والمشروع الوحدوي ليس مؤسسة عامة تعطي الكهرباء للمواطنين بنوعية ممتازة وأسعار مدروسة، وإنما شركة خاصة في الباطن، ذات صورة عامة في الظاهر. هذا إن خرج لبنان من نفق بواخر الطاقة ومقدمي الخدمات في المستقبل القريب.
تجدر الإشارة إلى أن المشاريع الخاصة المتعلقة بقطاع الكهرباء، مرفوضة في ظل إمكانية بناء مؤسسة كهرباء عامة حقيقية بعيدة عن الهدر والفساد. فالمشاريع الخاصة، وإن كانت في المدى المنظور تقي المواطنين بعضاً من شر عجز الدولة، إلا أنها في المحصلة فيدراليات كهربائية. لكن هذه الحقيقة لا تعني التلاقي مع منهج باسيل. فالاتفاق على التشخيص لا يعني حكماً الاتفاق على آليات الحل، ولا على أي مسلك يسلكه العونيون وشركاؤهم في وزارة الطاقة. فللعونيين كهرباؤهم ومشاريعهم، وللمواطنين أحلامهم وآمالهم التي لا تتلاقى مع أهداف التيار البرتقالي.
خضر حسان - المدن