بدا المشهد الداخلي أمس بمثابة خلية نحل مستنفرة أمنياً وسياسياً لاحتواء التداعيات السلبية بل الخطيرة للغاية التي حصلت الاحد الماضي في منطقة الجبل والتي لم تتوقف مفاعيلها على التخوّف من فتنة بل تمددت سياسياً لتطاول الحكومة وتشل جلسة مجلس الوزراء. وعلى رغم بروز جوانب ايجابية في المعالجات الامنية عكسها ارتفاع عدد المطلوبين الذين تم تسليمهم في حادث قبرشمون الى خمسة واللقاءات التي عقدت بين المعنيين السياسيين والمسؤولين الامنيين، فان ذلك لم يحجب الجانب السياسي الرسمي والحكومي الناشئ عن هذه التطورات والذي تمثل في الصدمة التي أثارتها عودة وسائل الضغوط والتعطيل وهذه المرة من داخل الحكم والحكومة وليس من خارجهما الامر الذي يزيد تداعيات هذه التطورات تفاقماً.
والواقع ان الاتصالات والمساعي السياسية والوزارية التي تلاحقت أمس لم تؤد الى نتيجة ايجابية على صعيد تحديد موعد جديد لجلسة مجلس الوزراء التي ارجأها رئيس الوزراء سعد الحريري الثلثاء على أمل ان تؤدي الاتصالات الى توافق حكومي على نقطة الخلاف في موضوع احالة احداث الجبل الاخيرة على المجلس العدلي، علما أنه كان من المفترض ان يحدد موعد الجلسة قبل ظهر اليوم في قصر بعبدا. وبدا واضحاً ان الخلاف على احالة حادث قبرشمون تحديداً على المجلس العدلي كما طالب بذلك رئيس الحزب الديموقراطي اللبناني النائب طلال ارسلان ووزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب من منطلق اعتبار الحادث محاولة لاغتيال الوزير، لم يتبدل على رغم الليونة التي طبعت التحركات الامنية – السياسية وأدت الى تسليم عدد من المطلوبين من الجانبين.
وأثار تشبث الفريق المشترط احالة الحادث على المجلس العدلي تساؤلات مريبة لدى أوساط وزارية ونيابية وقانونية رأت في الاصرار على هذا الشرط ما يتجاوز البعد المتصل بالحادث الى توظيف تداعياته في الواقع الناشئ بعد الحادث. فمن جهة، ثمة في رأي هذه الاوساط استباق سافر لعمل الاجهزة الامنية والسلطة القضائية في اكمال مهماتها في التحقيقات والتوقيفات الجارية والتي على اساسها فقط يجري توصيف الحادث وما اذا كان ينطبق عليه حقيقة انه كان محاولة اغتيال كما يقول الفريق المنادي باحالته على المجلس العدلي، أم حصل بفعل اشتباك وظروف تسبب بها دخول موكب الوزير وسط عراضة مسلحة واطلاق نار كثيف كما يقول الفريق الرافض للاحالة على المجلس العدلي. ومعلوم ان الافرقاء الرافضين لاحالة الحادث على المجلس العدلي هم الرئيس الحريري والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب "القوات اللبنانية"، كما ان رئيس مجلس النواب نبيه بري لم يبد حماسة للاحالة. وأشارت الى ان تجاوز الاصول القانونية في وصف الحادث أدى أيضاً بالافرقاء الآخرين بعد تسببهم باطاحة جلسة مجلس الوزراء الثلثاء الى تعطيل الجلسة اليوم على رغم ادعاءات الاوساط القريبة منهم انهم لا يعتمدون التعطيل وانهم لم يتخذوا المواقف المشروطة باحالة الحادث على المجلس العدلي بقصد التعطيل. ذلك ان التعطيل حصل كأمر واقع قسري مكشوف ولو جهد رئيس الوزراء لتجنب انفجار حكومته من الداخل. ولو لم تكن نية التعطيل قائمة لفرض تنفيذ المطلب الذي قدمه الافرقاء المؤيدون للنائب ارسلان والوزير الغريب لكانت المبادرة الايجابية التي قام بها الرئيس الحريري بارجائه جلسة الثلثاء قوبلت بمرونة كافية في الساعات الاخيرة لمنع اعطاء الانطباع ان البلاد تقف عند حافة ازمة حكومية هي في غنى عنها تماماً في هذه الظروف المعقدة اقتصادياً ومالياً واجتماعياً والتي جاء حادث قبرشمون ليزيدها تعقيدا وقتامة.
واعتبرت الاوساط الوزارية النيابية ان "حزب الله" ووزير الخارجية رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل عادا واقعياً الى اتباع نمط الضغوط بالتعطيل ومن داخل الحكومة هذه المرة بما يهدد جدياً مناعة هذه الحكومة وقدرتها على مواجهة الاستحقاقات المتنوعة والمتعددة الاتجاهات ويضع مجمل الواقع الحكومي أمام محك شديد الحرج. وقالت يؤخر ان الوزير باسيل لم عبثاً جلسة الثلثاء أكثر من ساعتين مع وزراء تياره محولا وزارة الخارجية الى مقر حزبي ونيابي ووزاري لتياره على نحو لم يسبقه اليه أي طرف سياسي. وملامح توزيع الادوار والشراكة بينه وبين "حزب الله" كانت واضحة بدليل استعادة صورة "الجبهة " الوزارية "الممانعة" من خلال التهويل ضمناً بالثلث المعطل الذي سارع الرئيس الحريري الى تعطيل استعماله بارجائه الجلسة، علماً ان مقدمات هذا النهج المنسق بدأت مع دخول "حزب الله" على خط دعم ارسلان والغريب منذ اجتماع خلدة ليل الاحد.ولم يكن محسوماً اتجاه "التيار الوطني الحر" لدعم مطلب احالة الحادث على المجلس العدلي الا يوم الثلثاء بالذات.
جنبلاط
وبدا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط محور الاتصالات واللقاءات الكثيفة التي جرت أمس بدءاً بمشاركته في اجتماع المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، مروراً بلقائه المدير العام للامن العام اللواء عباس ابرهيم، وصولاً الى "العشاء الثلاثي" الذي ضمه والرئيس الحريري الى مائدة الرئيس بري في عين التينة مساء. وصرح: "اننا سنواجه بهدوء وانفتاح والتأكيد على الحوار مع جميع الفرقاء من اجل تثبيت السلم الأهلي والمصالحة والامن"، رافضاً "هذا الخطاب الاستفزازي الذي لا معنى له في كل المناطق والذي ادى مع الأسف الى الانفجار". واضاف: "احيي الشهداء وأرفض أيضاً الكلام الاستباقي لوزير الدفاع كما فعل في قضية زياد عيتاني وغيره عندما استبق القضاء، ارفض هذا الكلام الاستباقي لحادثة البساتين ولينتظر القضاء".
وتساءل: "لماذا العودة اذا الى نبش القبور من الكحالة وسوق الغرب وغيرها من المحطات، وكم من مرة قلت أحيي جميع الشهداء كل شهداء لبنان في أي موقع سقطوا احتراما لقناعاتهم حتى لو خالف البعض منهم رأينا وكان في موقع آخر. لقد حييت كل الشهداء، ويكفينا العودة الى الماضي من اجل الوصول...يطول بالو شوي جبران بدو يوصل ليس بهكذا طريقة".
والتقى جنبلاط في دارته في كليمنصو اللواء ابرهيم في حضور الوزير اكرم شهيب والنائب تيمور جنبلاط والوزير السابق غازي العريضي وقال بعد اللقاء: "تأكيداً لما ذكرته في دار الطائفة الدرزية، فانني منفتح على كل الحلول بالتعاون مع اللواء عباس ابرهيم الذي يدرك كل مخاطر الازمة، وهو خير من يستطيع ان يخرج الامور من هذا المأزق". وأكد اللواء ابرهيم أن "جنبلاط منفتح على كل الحلول وأن يأخذ القانون مجراه وعليكم ان تفهموا من كلامه ما يقصد".
وعلمت "النهار" ان لقاء بري والحريري وجنبلاط الى عشاء عين التينة مساء اتسم باهمية اذ تناول الاقطاب الثلاثة التطورات الاخيرة باسهاب بدءاً من الغيوم التي شابت علاقة الحريري وجنبلاط، وصولاً الى تطورات الجبل وما حصل في جلسة مجلس الوزراء، كما تناولوا الاستحقاقات المقبلة ولا سيما منها اقرار الموازنة في مجلس النواب. ويتوقع ان تنعكس اجواء التوافقات التي سادت اللقاء على الاتصالات التي ستجرى في الساعات المقبلة لاعادة الوضع الطبيعي. وافادت مصادر المجتمعين انه "جرى عرض لآخر التطورات والمستجدات السياسية والأمنية، إضافة إلى الخطوات اﻵيلة لتصليب الوحدة الوطنية وتعزيز السلم الأهلي". وشددت على "أنّ ما اعترى العلاقات بين الجانبين من شوائب في المرحلة السابقة، تم تبديدها وباتت من الماضي".
ميقاتي وزيارة طرابلس
الى ذلك، علقت مصادر الرئيس نجيب ميقاتي على الانباء المتداولة عن زيارة ينوي الوزير جبران باسيل القيام بها لطرابلس، فقالت لـ"النهار": "من حق أي لبناني ان يتنقل بحرية على أي بقعة في لبنان من دون قيود او محظورات. وما يحق للمواطنين يحق أيضاً لجميع السياسيين فلا مناطق ممنوعة على أحد. ولكن على الزائر ان يحترم خصوصية طرابلس المتمسكة بالعيش الواحد وبوحدة الوطن والمؤسسات وبالتالي عدم الانزلاق الى خطابات فتنوية أو تحريضية أو استفزازية". واضافت: "ان الاحداث المؤسفة التي حصلت الاحد الماضي في منطقة عاليه يجب ان تشكل عبرة للجميع بوجوب التنبه الى مخاطر الانزلاق الى الفتنة وتأجيج الانقسامات".
المصدر: النهار