انتقلت الخلافات السياسية ومناوشاتها، إلى مرحلة جديدة. إنها حرب غير معلنة، أو حرب بلا قتال حقيقي. ما بعد ظهر الأحد، وأحداثه في كفر متى وقبرشمون، ليس كما بعده، لا سياسياً في مفاعيله الشعبية أو الطوائفية، ولا حياتياً في يوميات السكان والبلد، ولا أمنياً في الطرق وما بين القرى.
من المبكر جداً التورط في تقييم ما حدث وإلى أين سيؤدي. لكن الأكيد، أن مسار الأحداث لا يوحي بتخفيف التصعيد والتوتر من قبل الطرفين. في المشهد العام، ظهر الخلاف درزياً درزياً. لكنه في مضمونه وحقيقته هو عبارة عن افتعال لصراع "درزي - مسيحي" (لا بد من الاعتذار عن استخدام هذه اللغة، لكن واقع البلد المؤسف يفترض العودة إلى تلك المصطلحات).
الطريق إلى الانفجار
التصعيد من قبل خصوم وليد جنبلاط في بيئته، معروف ومفهوم.. رداً على ما جرى يوم الأحد. ومن المرجح أن يستمر، عبر الشروط التي يتم وضعها بتسليم القتلة والمسؤولين عن "الاشتباك" قبل إجراء ترتيبات دفن الضحيتين. ولهذا، سيكون التصعيد لأهداف سياسية أيضاً.
في المقابل، لا يبدو جنبلاط في وارد التنازل. ويظهر ذلك بجلاء في التغريدة التي أطلقها مساء الأحد. وفيها، أن ما جرى هو نتيجة محاولات الإخلال بالتوازنات.
الطريق التي أدت إلى الانفجار، تم شقّها منذ زمن طويل، واستمر تمدداً منذ ما قبل الانتخابات النيابية. كان المسعى الواضح (محلياً وإقليمياً - سورياً) هو تحجيم جنبلاط وإرساء ثنائية درزية تضعفه. فشل المشروع في الانتخابات مع الانتصار الكامل لجنبلاط، فجاءت "معركة" الشويفات لتلطيخ انتصاره، ومن ثم الثأر منه بعدم منحه ثلاثة وزراء في الحكومة.
بعد ذلك، كانت العراضات والمسيرات في الشوف التي "تكللت" بصدامات ما بين المختارة والجاهلية. وبعدها محاولات خارجية وداخلية لتنظيم جبهة تجمع القوى الدرزية المناهضة للمختارة. حتى ذلك الوقت، كان جنبلاط يحتفظ بأوراق قوة تتمثل بوضعه السياسي والانتخابي، علاقاته المتشعبة، تحالفاته المتعددة. بل وقدّم بوادر إيجابية تجاه "العهد" وغيره، من التنازل عن الحصة الوزارية الكاملة، إلى إبقاء قضية حادثة الشويفات معلّقة وفي يد رئيس الجمهورية. فقوبل بالكثير من محاولات الاستضعاف، والتي يرى فيها محاولات سورية مستمرة لتحجيمه، أو حتى إلغائه.
لحظة الانقضاض
على الرغم من مبادراته، تواترت خلافات جنبلاط مع خصومه وحلفائه. وجد نفسه محاصراً ومطوقاً، تعرّض لهجومات متعددة في السياسة والإدارة، مستشعراً بأن ثمة من يريد أن يتسلل إلى بيته وبيئته، وإن بغطاء درزي. وهو لا ينسى كلاماً وصل إلى مسامعه بأنهم سيمنعونه من إبقاء علاقته مع أي شخصية مسيحية. وما زاد مشكلة جنبلاط، اشتباكه الأخير العلني حيناً والصامت أكثر الأحيان مع حزب الله، بالإضافة إلى خسارته حليفه الأساسي الرئيس سعد الحريري.
بعد كل هذه الضغوط، وما نتج عنها من اكتمال الطوق حوله، هناك من استشعر أن اللحظة حانت للإنقضاض على جنبلاط، وإنهاء دوره أو تأثيره السياسي، فكان الخيار بترتيب "الزيارة" إلى الجبل، والتي كانت مدروسة بعناية، على نحو يزور فيها الوزير جبران باسيل، قرى درزية، سنية، مسيحية وشيعية.
فهم جنبلاط أن المشروع أكبر من مجرد زيارة. إنها فتح الطريق أمام "اجتياحه" وكسره أو إلغاء وجوده وحضوره. لكن الأهم، أن جمهوره أدرك أيضاً ما يريده باسيل. هكذا، لجأ مناصرو جنبلاط إلى قطع الطرقات للتعبير بحدة وعنف، أن من يريد أن يطال جنبلاط دونه الويلات. وبلحظة هدير الرشاشات انقلبت الميمنة على الميسرة، ووصل البلد إلى نذير الحرب. و"الرسالة" هذه طالت الجميع ووصلتهم بكل صخب ممكن: استمرار التحدي والاستفزاز، سيؤدي إلى أحداث أسوأ.
أصل الإشكال هو بين جنبلاط والتيار الوطني الحرّ، وبمعنى "أوقح"، بين الدروز وشطر غالب من المسيحيين. ولكن استخدمت فيه أسلوب لعبة البيلياردو، أي ضرب طابة لإصابة طابة أخرى. وما حدث عصر اليوم الأخير من حزيران 2019 (تاريخ سنعاود تذكره في المستقبل)، أدى إلى رجفة أو نقزة مسيحية. صحيح أن ما جرى قد تحول إلى إشكال درزي - درزي، لكنه سيفتتح لبداية الكثير من التساؤلات في صفوف بعض المتحمسين (أو المتهورين): إذا كان هذا ما حدث درزياً، فماذا ستكون عليه الأمور لو تطورت طائفياً أو مذهبياً؟ الأكيد، أن هناك خطاباً مسيحياً سيبرز لدى بعض الأحزاب والقيادات والكنيسة رفضاً أو تنبيهاً من التمادي في الاستفزازات (العونية أو الباسيلية)، وسيكون خطاباً للتهدئة والتعقل، يحذر من عواقب الصدام الطائفي.
باسيل متوارياً
وفي المقابل، سيبرز من سيغذي الحال المتوترة ويصرّ على أن الإشكال أصبح درزياً درزياً، من خلال التشديد على أن الواقعة هي محاولة اغتيال تعرض لها الوزير صالح الغريب. فقد تبع الصدام مباشرة تصعيد درزي من جانب خصوم جنبلاط، بهدف إشاحة النظر عن أن زيارة باسيل هي السبب الأساسي والأول لهذا الغضب الذي أدى إلى الاشتباك. ولذا، كان غياب باسيل التام طوال الساعات التي تلت الحادثة وصمته الكامل بعد ذلك. لقد توارى عن المشهد وترك مناوئي جنبلاط في مقدمة الصورة. وهذه من شأنها أن تؤرق جنبلاط، الذي يتوجس باستمرار من محاولات كثيرة ومديدة لتحقيق الشرخ الدرزي وتصديع الطائفة.
هنا لا بد من ترقّب مواقف ثلاث قوى أساسية، هي حزب الله، الرئيس نبيه بري، والرئيس سعد الحريري. حزب الله أعلن بوضوح موقفه المنحاز أثناء اجتماع خلدة، بإشارات عدائية تجاه جنبلاط. وأظهر دعماً قوياً لحلفائه، وإن أوحى بحرصه على بقاء "الستاتيكو" القائم في ظل الظروف الإقليمية الراهنة، وأنه يفضّل تجنّب أي اشتباكات سياسية داخلية، قد تشوش عليه في هذه المرحلة.. وطبعاً، بلا أي تنازل. أما الرئيس نبيه برّي فتمسك بالدعوة إلى التعقّل ومعالجة الوضع بهدوء، وسيحاول على الأرجح لملمة القضية قبل تفلّتها أكثر. لتبقى الأنظار متجهة إلى الحريري وإلى صحة المعلومات التي رشحت سابقاً عن لقاء سيعقده مع جنبلاط، ليبنى على الشيء مقتضاه.
على الضفة الأخرى، حتى الآن لم يظهر أي موقف للوزير جبران باسيل، والذي يبدو أنه استهاب ما حصل. لكن هذا لا يعني أنه في وارد التراجع. فالمفارقة أن كل الاتهامات التي يتعرّض لها الرجل، والصخب الذي يسببه، تعزز شعبيته ومكانته. هو يعلم أن الطريقة التي اعتمدها في جولاته الأخيرة، كانت تهدف إلى "اقتحام" مختلف المناطق والبيئات. وهذا حقه طبعاً، إلا أن ذلك لم يكن مقبولاً من قبل أطراف عدة، وجدت نفسها مضطرة إلى إقفال الطريق عليه، وقطع هذا المسار.
الربح والخسارة
ربما المآل الذي وصلت إليه الأمور في الجبل، قد تدفع باسيل إلى التمهّل والمراجعة. ربما قد يقتنع بعدم الإصرار على زيادة التوتر والمعمعة، خصوصاً في ظل مناخات تشير أن تحركاته كانت، وستكون أكثر، مشروع إشكال يومي، وأينما اتجه.
الكل الآن يترقب كيف سيكون الرد على جنبلاط. هل سيتم الإقرار أن ما حدث هو انتفاضة على محاولة لإنهائه سياسياً من المعادلة؟ وبالتالي، هل ستتعزز أكثر الهجمة عليه، اما أنها ستدفع إلى الجلوس معه على الطاولة؟
لا يمكن الحديث حتى هذه اللحظة عن نتائج الربح والخسارة. لكن بالتأكيد ثمة واقعة بالغة الأثر ومتشعبة الذيول ستطبع المسار السياسي وستؤثر على ما تبقى من "عهد" ميشال عون. ورغم الحدة والعدائية من قبل خصوم جنبلاط في البيئة الدرزية، إلا أن المواقف الأخرى لبنانياً، لم تصل إلى حدّ إدانة وليد جنبلاط شخصياً، شعبياً وإعلامياً على الأقل. وهنا تنقسم الآراء، بين من يرى أن جنبلاط قام بـ"هجوم معاكس" ناجح، وأنه ما زال قادراً على تغيير الظروف أو اختيار ميدان المعركة وحجمها وتوقيتها، وأنه أفهم الجميع صعوبة تطويقه.. وبين من يعتبر أنه قد خسر مجدداً. فقد خسر أولاً ورقة حادثة الشويفات (التي تدين خصومه)، والتي كان يحفظ حقه فيها، كما خسر ورقة أخرى، هي "صورته" كداعية دائم للاستقرار وتعزيزه، وحماية التنوع السياسي، وصون السلم الأهلي ونبذ السلاح والعنف. بل هناك من يظن أن جنبلاط بهذا "الصدام" قد يسهم في تطويق نفسه أكثر.
بالتأكيد، جنبلاط لن يقف عند هذا الحدّ. في جعبته أكثر من ورقة أو خيار. هو يعلم أن اهتزاز الجبل لا يصب في صالحه بل في صالح خصومه. وهو موقن أن تصديع الجبل هدف ثابت لدى النظام السوري، لاقتحام معقله والانتقام منه. لذا، وبعد إظهاره "القوة"، قد ينعطف إلى مسار آخر، نحو العمل على تعزيز شبكة أمانه الداخلية مع القوى السياسية المختلفة، عبر ديناميكية جديدة في جولات ميدانية لا تهدأ ومتنوعة، منها ما هو شعبي ومنها ما هو سياسي، كمناورة معاكسة لتطويق جبران باسيل، الذي أصبح مصدر إزعاج للكثيرين، خصوصاً لبرّي وفرنجية وجعجع.. وحتى للحريري. كما قد يتجه إلى تعزيز اللقاءات الإسلامية المسيحية، والدرزية المسيحية بالتحديد في الجبل، ربطاً بتوثيق العلاقة مع بكركي، والمرجعيات المسيحية المختلفة، بالإضافة إلى إبقاء اليد ممدودة إلى شخص رئيس الجمهورية، بعيداً عن باسيل.
منير الربيع - المدن