لا يمكن وضع حالات قطع الطرقات أمام أي طرف سياسي في لبنان، إلى أي منطقة لبنانية كانت، إلا في إطار الخطيئة والتصرّف السياسي الموتور. هذا بمعزل عن الدخول في التكهّن إذا كانت الاحتجاجات وقطع الطرقات مسألة عفوية أم منظّمة. إلا أنّها تدلّ على أزمة عميقة، وتؤشّر إلى اقتراب البلد من حافة الانفجار، بلا أي وازع من استعادة مشاهد الحرب الأهلية، عسكرياً أو خطابياً.
ما جرى في الجبل، قابل لأن يطال أي منطقة لبنانية أخرى، وأي جماعة أخرى. وقد يؤسّس لتحرّكات مشابهة، احتجاجاً على أي موقف سياسي تعتبره الجماعة "مستفزّا". وبمعنى أوضح، ما جرى مع الوزير جبران باسيل، قد يحصل في مناطق غير الجبل، سواء في مناطق موالية لحركة أمل، وقد حصل ذلك خلال زيارة باسيل إلى الجنوب، وهذا ما يحضّر له أيضاً خلال زيارته إلى طرابلس. وصحيح أنّ باسيل يعتقد أنّه يحقّق المزيد من النقاط مسيحيّاً بفعل ما يتعرّض له من هجوم، لكنه أيضاً سيكون عرضة لتحرّكات مشابهة أخرى بفعل سياسته وخطاباته.
الاحتقان والتشنّج
الأخطر في ما حصل، هو وصول "الدروز" إلى لحظة لم يعد وليد جنبلاط قادراً فيها على إمالتهم حيث تميل الريح. فبالاستماع إلى كلام المحتجّين، الذين قطعوا الطرقات على موكب الوزير جبران باسيل في عبيه وكفر متى، يظهر حجم الاحتقان والتشنّج في النفوس. قال المحتجون صراحةً: "لو جاء جبران باسيل مع وليد جنبلاط إلى كفر متى والشحار لن نسمح لهما بالدخول". وهذا الكلام يعني كثيراً في لبنان، إذ يعكس تعالي لهجة جهة معيّنة على زعيمها. وهذا يدلّ في الأساس على حجم الحنق الذي يحمله الدروز، كما غيرهم، منذ التسوية الرئاسية.
لم تكن أحداث اليوم الأولى التي يعتبرها "الدروز" استفزازية، والأخطر بالنسبة إليهم، أنهم باتوا يعتقدون أنّ كل المحاولات تهدف إلى تكريس الانقسام الداخلي الدرزي-الدرزي، منذ حادثة الشويفات قبل سنة ونيف، إلى "الإغارة على المختارة" وتداعياتها في الجاهلية، وما ظهر بعدها من محاولات للمّ شمل كل القوى الدرزية المعارضة لجنبلاط. ورغم أنّ جنبلاط استمر في التهدئة وتخفيض السقف، مسايراً "التسوية" ومقدّماً التنازلات، لكن ذلك لم يرضِ جمهوره، الذي بقي يقضم غضبه.
تاريخ من الاستفزاز
والاستفزازات لم تقف عند حدود تكريس شرخ درزي-درزي، إنما شهد الدروز على محاولات استفزازية عديدة من قبل التيار الوطني الحرّ، بدءاً بالخطابات التي ظهرت في حملته الانتخابية في العام 2018، إلى مواقف أخرى تتعلّق بمعارك سوق الغرب و"دحرجة الرؤوس فيها"، ما أعاد فتح جراح يفترض أنها التأمت، مروراً بالمواقف التي أطلقها باسيل في قداس سيدة التلة في دير القمر، غامزاً من قناة الحزب الاشتراكي في تحميله مسؤولية حرب الجبل، وصولاً إلى زيارة باسيل إلى عاليه، والموقف الذي أطلقه مذكّراً بتاريخ الرئيس عون في معارك سوق الغرب والشحار وضهر الوحش. وهذا أكثر ما استفزّ الدروز ودفع بأهالي كفر متى، التي بالمناسبة حصلت فيها مجازر أيام الحرب، إلى قطع الطرقات رفضاً للزيارة.
خطورة ما جرى، تؤشّر إلى أنّ مناصري جنبلاط لم يعودوا في وارد القبول بالتنازل، وهذا ما ظهر من خلال سرعة ردّة فعلهم وطبيعتها. وما قاموا به عبارة عن دق جرس إنذار، بأن الوضع قابل للانفجار إذا استمرت التصرفات على حالها، خصوصاً وسط المحاولات الكثيرة للإخلال بالتوازن، أو بتهميشهم وتحجيمهم. ومما لا شك فيه، أنّ تحرك اليوم أتى نتيجة احتقان بدأ منذ حادثة الشويفات إلى حادثة الجاهلية، وأحداث أخرى متنقّلة من عين دارة إلى وطى المصيطبة. إضافة إلى بعض الممارسات السياسية الواضحة التوجه في محاصرة جنبلاط على ما يعلن هو. وفيما غرّد الأخير قبل أيام بأن لا حلّ بغير الصبر والصمود، لجأ مناصروه إلى لغة مختلفة، اعتقدوا أنها تؤمّن لهم الانتصار على أنفسهم لرفض الخنوع.
اثبات الوجود
هكذا تحوّلت الحادثة إلى نذير خطر، وربما إلى رسالة متعدّدة الاتجاهات، تهدف إلى إثبات الوجود والقدرة على الضرب الموجع ولو عبر استذكار مشاهد الحرب. كما تهدف إلى القول بإنّ زمن الصبر والصمت أو الكلام قد ولّى، لأنّ الإخلال بالتوازن ممنوع ومحاولات التحجيم أو إرساء الثنائيات على حساب الآخرين ممنوع أيضاً. وهنا لا بد من التوقف عند رسالة وليد جنبلاط الذي رفض فيها التعليق أو الدخول في سجالات، لكنه قال: "على حديثي النعمة في السياسة أن يدركوا الموازين الدقيقة التي تحكم هذا الجبل المنفتح على كل التيارات السياسية من دون استثناء لكن الذي يرفض لغة نبش الأحقاد وتصفية الحسابات والتحجيم". وكذلك بتغريدة لتيمور جنبلاط قال فيها:" إن ما جرى يؤكد أن الإخلال بالتوازنات أمر خطير". وهذه إشارة أساسية توحي بأن طريقة التعاطي السابقة مع الأمور، لم تعد مقبولة.
على إثر التوتر، قطع باسيل زيارته وغادر المنطقة، بينما غرق الدروز في دماء بعضهم. وهذا يعيد التذكير بأنّ المعركة في مكان آخر، وغايتها تكمن في التركيز على إحداث شرخ درزي-درزي، من حادثتي الشويفات والجاهلية وصولاً إلى مقتل مرافقين للوزير صالح الغريب اليوم. وهذا مشروع قديم جديد لطالما شكّل أرقاً لجنبلاط الذي يعلم مدى محاولات التلاعب في ساحته وتجميع معارضيه لتكريس ثنائية درزية.
توحّد الدروز
مشكلة خصوم جنبلاط معه أو مع الدروز، تبقى في التفافهم حوله عند أي استهداف يتعرّض له. وهذه تجربة لها تاريخها ومرارتها بالنسبة إلى الخصوم، منذ أيام الحرب الأهلية إلى أحداث 7 أيار 2008، التي وقف فيها خصوم جنبلاط في صفه ضد حزب الله. وتتكرّر عند كل محطة ومفصل. وهنا ثمة رواية تاريخية حول كفر متى بالتحديد، وآل الغريب، فغداة انتخاب الرئيس بشير الجميل رئيساً للجمهورية، ذهب الشيخ الراحل مسعود الغريب إلى بكفيا لتقديم التهنئة له. وكان الغريب يومها يزبكياً معارضاً لجنبلاط الذي كان خصماً شرساً للجميل، ودارت بينهما حروب ضروس. إلا أنّ الغريب قتل في طريقه إلى بكفيا. فتوحّد الدروز على موقف واحد بأن قتله هو قتل لكل درزي، فاستعادوا لحمتهم بعد انقسام. اليوم على ما يبدو أنّ المشروع أخطر، وسط كل محاولات حشر جنبلاط في السياسة من جهة، وتعزيز وضع خصومه من جهة أخرى، والدفع إلى هدر الدماء الدرزية-الدرزية، التي لا تحقن، ومنع جنبلاط من استعادة الدروز في اللحظات العصيبة.
منير الربيع - المدن