هناك تحرّك سياسي اعتراضي على المسار السائد وفق قواعد "التسوية" الراسية منذ انتخاب الرئيس عون. تحرك بدأ يتنامى ببطء، أو بخجل. مواقف اعتراضية متعددة ومتنوعة تصدر عن أفرقاء يجدون أنفسهم متضررين من هذه التسوية، أو يتعرضون لمحاولة تهميش متعمدة. لكنها اعتراضات لا تبدو حتى الآن منصهرة بلغة واحدة، متسقة فيما بينها. إلا أن التحركات "الفردية" الطابع تلتقي على الخطّ ذاته، لمواجهة تجديد الاتفاق بين الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل.
علامات الاعتراض
يظهر رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، كرأسي حربة لهذه التحركات، التي يخوضها كل منهما على طريقته. عاد جعجع إلى واجهة المشهد الاعتراضي في اليومين الماضيين، وتحديداً بعد ترؤسه لاجتماع تكتل "الجمهورية القوية"، واستكمل موقفه "الممانع" (إذا صح التعبير) بعد لقائه الرئيس الحريري. استعاد جعجع موقفه المعارض لحزب الله بعد صمت طويل. فتحدث بشكل مباشر عن مخاطر إقليمية لا يُحبَّذ أن يُدخل لبنان في تحولاتها أو أتونها إذا ما اشتعل، فتوجه إلى الحزب بشكل مباشر، أن لا داعي لإدخال لبنان في صراعات إيران.
ويعد هذا الموقف تطوراً في سلوك جعجع في الفترة الأخيرة. ما يعني أن المقصود من قبله هو تصويب البوصلة السياسية للدولة، خصوصاً لما يمثّله الرجل من حيثية سياسية في لبنان، أو حيثية تتقاطع عندها جملة تطلعات إقليمية ودولية.
خيارات جعجع
سارع جعجع إلى لقاء الحريري، لوضع بعض النقاط فوق الحروف، ليس في ملف التعيينات فقط، إنما بملفات أخرى وضعها في سياق تجنيب لبنان مخاطر التحولات الإقليمية. وهذا يدل أن "الحكيم" يقرأ في بعض التطورات في المنطقة، والتي قد تتسارع في الأيام المقبلة، فتفرض تغييراً في السلوك السياسي اللبناني. وفي مستوى آخر، لا شك أن جعجع يعلم أنه سيتعرض لمحاولة حصار جديدة في ملف التعيينات أو غيره من الملفات، تماماً كما تعرّض في مرحلة تشكيل الحكومة. وهذا سيفرض عليه آلية أخرى في الفعل السياسي.
حتى الآن يميز جعجع بين الوزير جبران باسيل والرئيس ميشال عون. وليست زيارة الوزير السابق ملحم الرياشي إلى قصر بعبدا ناقلاً رسالة إلى عون، إلا دليل على أن "القوات" لا تزال تسير على منطق الشكوى، لا الذهاب نحو "الفعل"، أو "ردّ الفعل". ولكن في حال وجد جعجع نفسه محاصراً مجدداً، فبالتأكيد سيكون مجبراً على سلوك آخر. إلا إذا قنع بانعدام الفعالية السياسية في ظل التركيبة الثلاثية "الذهبية" بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل.
تغريدات جنبلاط
في المقابل، يستمر وليد جنبلاط في تغريداته المنتقدة بشدّة للتسوية وإدارتها. إذ قال بعد ساعات على اللقاء بين الحريري وباسيل: "في فلسطين صفقة قرن وفي لبنان صفقة قرن. هناك أرض وشعب على مشارف المصادرة والتهجير وهنا اتصالات وكهرباء وأملاك بحرية ومصافي ونفط وغاز على مشارف القرصنة والتوزيع والتخصيص. هناك صهر وهنا صهر يعبثان بالأخضر واليابس. هناك رئيس يهدد العالم يميناً وشمالاً وهنا تسوية القهر الذل والاستسلام". وعاد وغرّد الخميس: "الواقع يقول أن ميثاق الثنائي لا علاقة له بالميثاق الوطني. أحدهم شعاره الإلغاء بأي ثمن والوصول بأي ثمن والآخر شعاره البقاء بأي ثمن والشراكة بأي ثمن. لكن لنتذكر أنهما أدوات لقوى لا تؤمن بالميثاق أو التنوع. فلسفتها اساساً الإلغاء".
مواقف جنبلاط اللاذعة، لا تنفصل عن تحركه السياسي تجاه رئيس الجمهورية، بواسطة اللقاء الذي عقده الوزيران أكرم شهيب ووائل أبو فاعور مع عون. مبادرة قائمة على أمل ترتيب الملفات العالقة. لكن من الواضح أن لا بوادر لإحداث أي تغيير في المسار، خصوصاً في ظل المعلومات التي تتحدث عن أن اللقاء لم يكن إيجابياً بين عون وشهيب وأبو فاعور، مع نية في تخصيص حصة التعيينات الدرزية بثلثين لجنبلاط وثلث لخصومه.
البحث عن حليف سنّي
يحاول جنبلاط أن يصوغ جبهة معارضة بأسلوبه، ولو اقتضى ذلك منبر تويتر وحسب. وتلقى مواقفه صدى سياسياً وشعبياً، لكنها تبقى غير مقترنة بأي فعل. وهذا ما سيفقد هذه الحركة الاعتراضية معناها، خصوصاً في ظل التكامل الثلاثي "الذهبي" الذي أشرنا إليه آنفاً، بما يبقي جنبلاط بعيداً، فيما المواقف العلنية لمسؤولين في التيار الوطني الحرّ تبدو واضحة بمقصدها "ضرب" جنبلاط ودوره. فيصح القول أن الضغط عليه سيشتد في المرحلة المقبلة، لا سيما إذا لم يكن هناك من خطّة عمل واضحة للمواجهة السياسية، على نحو يعيد التوازن إلى الحياة السياسية.
حراك جنبلاط وجعجع يبقى بحاجة إلى غطاء سنّي، لاجل تحقيق التوازن السياسي، هذا الغطاء غير متوفر حالياً، بفعل خيارات الرئيس سعد الحريري. لكن أيضاً هناك أصوات وتحركات سنية واضحة تعمل ساعية لاستعادة التوازن السياسي في البلد، والذي افتتحه الوزير السابق نهاد المشنوق من دار الفتوى. وعلى إثره بدأ التوتر مع الوزير جبران باسيل، واستدرج فيما بعد بياناً واضحاً وشديد اللهجة من قبل رؤساء الحكومات السابقين. لولا هذه المواقف السنية، لما لجأ الحريري إلى التصعيد في مؤتمره الصحافي الأخير، ولما لجأ باسيل إلى تهدئة الجو نسبياً، ولم تكن هناك حاجة لعقد لقاء دام خمس ساعات مع الحريري لترتيب بعض الأمور.
يؤشر كل هذا إلى أن "رفع الصوت" يجدي نفعاً بشكل أو بآخر. لكن لا يمكن أن يكون له وقع التأثير ما لم يكن متخطياً للإطار الطائفي أو المذهبي. وبالتالي، العمل على إعادة إنتاج تجمع سياسي يستفيد من وضع شعبي غاضب، من أجل إعادة تصويب البوصلة. بالتأكيد أن هناك أفكاراً من هذا النوع، تخطر على بال هؤلاء الأفرقاء المعترضين، لكنها ستبقى بحاجة إلى مؤشرات داخلية وخارجية تعززها وتحفزها، لتتأطر في سياق عملاني تجتمع حوله هذه القوى المختلفة، لتغيير المشهد برمته.
منير الربيع - المدن