كان انتساب الجامعة إلى الوطن إسماً في التأسيس، ثم اكتسب مضامينه الوطنية تباعاً وعلى مدى عقود، من خلال صراع اجتماعي شامل خاضته أحزاب وقوى مختلفة الرؤى والمشارب، لكنها رأت في الجامعة اللبنانية موضوعاً مشتركاً يقتضي حمل متطلباته والدفاع عن ضرورة تطوره وتطويره. كان ذلك في سياق النظرات المتقاربة إلى مسألة التعليم الرسمية بكل مستوياته، وإلى دور التعليم في تجديد النخبة اللبنانية التي يمكن أن تكون بديلة فكرياً عن نمط "الإنتاج الفكري" الطائفي السائد، مما يمكن أن يؤسس، وفقاً لآراء المدافعين عن التعليم البديل ودوره، لتجديد أنماط الإنتاج الاقتصادي، وآلية إنتاج السياسة للنظام السياسي، وبرامج وأساليب إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية، وتجديد روابط "العقد الاجتماعي اللبناني"، الذي قام على خلل تكويني أصلي، ثم حمل أثقال هذا الخلل الذي تناسل اختلالات واضطرابات، ما زالت تواكب حياة اللبنانيين وطرائق عيشهم، وأفكار مساكنتهم وما يسمونه عيشهم المشترك.
تفكك السياق
كان ذلك هو السياق الذي حمى نشأة الجامعة اللبنانية وواكب مسيرة تحولاتها، وكانت قوى ذلك السياق، التقدمية والوطنية والعروبية والديموقراطية عموماً، هي التي جعلت مسألة التعليم الرسمي، مطلباً أساسياً من ضمن مطالب الحركة الشعبية، التي تكونت من اجتماع وائتلاف تلك القوى، في هيئات وأطر تنسيق مشتركة. لنقل أن تقدُّم مسألة الجامعة اللبنانية، بصفتها التتويج "التعليمي" للمراحل الدراسية التي تسبقها، ما كان لها أن تحصل إلاَّ في إطار نهوض شعبي شامل قادته حركة يسارية متنوعة، في وجه قوى النظام الطائفي الذي همَّش المسألة التعليمية الرسمية، ورعى مؤسساته التربوية الخاصة، وأهمل الصفوف الواسعة من طلاب الفئات الفقيرة والمتوسطة الحال، في سياق الإهمال العام، اقتصادياً وخدماتياً لسائر المناطق اللبنانية، التي جعلها النظام الطائفي ملحقات طرفية، فلا ينالها من مغانم التحالف الطائفي الحاكم إلاّ فتات من خزينة الأموال العمومية.
لقد كان عمر ذلك السياق التضامني مع الجامعة التي أريد لها أن تكون وطنية، سياقاً قصيراً بالقياس إلى عمر التجربة الاستقلالية اللبنانية، إذ سرعان ما فكَّكت الحرب الأهلية عام 1975، كامل سلسلة انتظام عقد السياق اللبناني، وفتحت السنوات اللاحقة للحرب سياقات تهميش مضادة، أمعن أصحابها تخريباً في كل المكتسبات الشعبية التي أمكن تحقيقها من خلال التحركات الحاشدة المتتابعة، ثم جاءت قوى الميليشيات التي ورثت التشكيلة الطائفية السابقة، ففتحت عهد شرذمة وتفكيك للنسيج الاجتماعي اللبناني الداخلي، فأصابت مشتركاته اليومية، ونالت من صمود مشتركاته المؤسساتية، واصطنعت لذواتها مؤسسات تابعة، تقول قولها وتبارك فعلها وتتصدى لمخالفيها... هكذا صار اللبنانيون أمام مدارس فتوى، وكليات أسطورة، ومعاهد تمييز "حضاري"، وأمام جامعات شعوب يتولاها "أحفوريون" ينبشون في التراث البائد، ليوظفون ما هو مناسب منه في تبرير وتسويغ الحاضر المتخلف السائد.. وسط هذه اللوحة، صارت الجامعة اللبنانية هدفاً يُصوِّب عليه وليس منبراً يطلق منه، وصارت ميدان توظيف لصف واسع من "الزبائن السياسيين" الذين يحملون أسماء أكاديمية، بحيث يكون أصحاب الأسماء، قوة "فكرية" احتياطية، تقول ما تقوله جامعات الفئات المذهبية، وتشيع ما تعتقدها مذاهبها في أوساط أبناء الفقراء، الذين قصدوا جامعة "الوطن"، فباتوا هم أيضاً مادة استقطاب وتخريب، من قبل مكاتب الأحزاب الطلابية التي أحتلت الفروع الجامعية الرسمية، وبرعاية الأساتذة الذي يستخدمون نفوذهم "لإفهام" من لم يستطع فهماً ضمن الكتلة الطلابية الواسعة.
حاضر الجامعة وإضرابها
ضمن ما أشير إليه من ظروف سياسية محيطة، ومن ظروف داخلية للجامعة اللبنانية، إدارة وهيئة تدريس وطلاباً، تحرّكت الهيئة التعليمية في الجامعة، بعد أن طالت السياسة المالية العشوائية لأركان الحكم ميزانية الجامعة والحقوق المكتسبة لأساتذتها.
تحرك رابطة الأساتذة المتفرغين لا يقلل من أهميته واقع حال الجامعة الضاغط، ولا ينال منه حديث "الشماتة" أو الاستهجان الذي يردد أن الأساتذة لم يتحركوا إلاّ عندما طالهم سيف "التقشف" المالي العشوائي. واقع الأمر، أو الطبيعي فيه، أن تتحرك الفئات الشعبية دفاعاً عن حقوقها، طلباً لتحصيلها أو دفاعاً عن محاولات إعادة حرمان المستفيدين منها، لذلك يصير الحديث المجدي قراءة الإضراب في يومياته، والمساعدة في استكشاف ممكناته، والحث على تجنب أفخاخه ومطباته، وحشد الدعم لمنع فشله، على صعيد تحقيق مطالبه، أو على صعيد وحدة هيئاته التمثيلية والنقابية.
يواجه الإضراب اليوم ضغط "التشكيلة" السلطوية التي تتصرف بازدواجية سياسية، فهي لا تريد الظهور في لبوس من يتصدى للمطالب الشعبية بطريقة عارية، ولا تريد في الوقت ذاته اشتداد عود أي تحرك مطلبي شعبي ينال من قوة إحكام قبضتها على المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. الإزدواجية هذه يستطيع التحرك الجامعي، وربما استطاع، الإفادة منها قليلاً، بواسطة سياسة السير "على حد السيف"، بحيث يتحاشى القيمون على التحرك المبالغة في التشدد مطلبياً، أو الغلو في رفع السقف سياسياً. الأمران لا تقوى على النهوض بهما بنية "الجامعة" الحالية، ولا يستطيع التغاضي عنهما أرباب "النظرة" المذهبية المتحكمة والحاكمة. لعله سيظل من الأجدى العمل بالمبدأ النقابي الأثير: خذ وطالب، وكل أخذ يشدّ من عضد الهيئات التمثيلية في الجامعة، ويشكل تمهيداً وازناً في أي تحركات جامعية مقبلة.
حذر لا بد منه
يقتضي الحرص على مصلحة الجامعة اللبنانية التذكير بما وصلت إليه أحوال رابطة الأساتذة الثانويين، والتذكير بالاتحاد العمالي العام ودوره في الحياة المطلبية اللبنانية، ضرورة التذكير تنبع من الدعوة إلى الاستفادة من التجربتين السابقتين، فالسلطة التي ما زالت إياها أقدمت على مصادرة "الموقعين" اللذين كانا مشاكسين، من خلال هجومها النقابي المصطنع، واستهدافها السياسي الحقيقي، إنما أيضاً من خلال أخطاء في إدارة الصراع مع هذه السلطة اقترفها القيمون على رابطة الأساتذة، وعلى يوميات الاتحاد العمالي العام.
شرط غائب
في مواجهة الظروف الداخلية والمحيطة، تخوض الجامعة اللبنانية معركتها وحدها، وهذه نقطة ضعف واستضعاف لها، وهي أيضاً نقطة ضعف وعجز من قبل الأحزاب السياسية التي ما زالت تقيم مع ماضي "الحركة الشعبية" علاقة ودّ وذكرى وذكريات، والسؤال: أين دعم هذه الأحزاب؟ ألا يستحق موضوع الجامعة اليوم، وكما هو، دعوات إلى أشكال من التضامن التي تتلاءم مع واقع الأحزاب المعروف؟ الأمر ممكن، فلماذا التخلف عن القيام بتحركات داعمة هي قيد الإمكان؟!
احمد جابر - المدن