ثلاثة مؤشرات مهمة برزت في زيارة نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي، ديفيد ساترفيلد، إلى لبنان. وأولها تجلّى بلقائه مع وزيرة الطاقة، ندى البستاني، الذي أبلغها تشجيع الإدارة الأميركية للشركات على الاستثمار في قطاع النفط بلبنان. موقف ساترلفيلد هذا، جاء بعد كلام لبناني طالب الأميركيين بالدخول إلى عمليات التنقيب عن النفط، والموقف اتخذه الوزير جبران باسيل خلال لقائه بوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى لبنان، ثم أعاد تكراره قبل أيام الرئيس عون. ما يعني أن ما يجري اليوم هو نتاج مسار طويل من التوافقات، التي حصلت بعيداً من الأضواء، وهي بلا شك لا تنفصل عن مسار التطورات في المنطقة.
عسكر واستثمارات
المؤشر الثاني في زيارته، التي من المفترض أنها ستكون الأخيرة إلى لبنان، لالتحاقه فيما بعد بمنصبه الجديد سفيراً لبلاده في أنقرة، التقى ساترفيلد بعيداً من الإعلام حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة. وهذا يعني أن الاتفاقات التي يتم العمل عليها هي أوسع من ملف ترسيم الحدود، وترتبط ببعضها البعض. وأساساً، ومنذ إعادة تجديد ساترفيلد لتحركاته على خط ترسيم الحدود، تم وضع سقف زمني معين لعمله، ليتم وضع أسس إنطلاق عمل اللجنة الرباعية للبدء بالمفاوضات. وهذا ما حدث. إذ جرى الاتفاق على أسس التفاوض، لتبقى التفاصيل متروكة لعمل اللجنة ولمتابعة خليفة ساترفيلد، ديفيد شينكر.
تحرك ساترفيلد بخصوص استثمار الشركات الأميركية، وباتجاه مصرف لبنان، يترافق مع إجراء اتخذه الرئيس الاميركي دونالد ترامب، لزيادة عدد القوات الأميركية في لبنان، وإرسال ستين عنصراً جديداً، بناء على طلب من الحكومة اللبنانية، للمساعدة في محاربة الإرهاب. ما يعني أن الطلب اللبناني وإرسال ترامب هذا الإخطار إلى الكونغرس لزيادة العسكريين الأميركيين، كما في لبنان كذلك في اليمن والأردن، لا ينفصل عن عودة ظهور "تحركات إرهابية" على الساحة اللبنانية،، كما حدث مؤخراً. وبالتالي، فإن الاهتمام يجب أن يتركز على ثلاث نقاط أساسية، ترسيم الحدود، حماية الاستقرار المالي والاقتصادي وما يرتبط بهما، ومحاربة الإرهاب.
تفاهمات مع إيران
دخول الشركات الأميركية للاستثمار بالنفط اللبناني، يعني حكماً تأمين شرط الأمن والاستقرار. وهذا لا يتحقق من دون اتفاق. ما يدل على ابتعاد شبح أي مواجهة في الجنوب. وهنا لا بد من التذكير بتقرير نشرته "المدن" حول مساعي ساترفيلد، والتي تتعلق بإنشاء شركة أميركية قابضة تبتاع الإنتاج النفطي من لبنان ومن إسرائيل، وتعمل هي على التصرف به وتسويقه، مقابل توزيع المردود على الطرفين. لا شك أن أي نوع من التفاهم بالحدّ الأدنى، سيكون مرتبطاً بملفات أوسع، لا تنفصل عن "المفاوضات الأميركية الإيرانية"، خصوصاً في ظل مؤشرات تؤكد أن الأساس في الاتفاق الإيراني الأميركي قد وقع، وهو التوافق على عدم الصراع أو الخصام أو الصدام، والعمل معاً للبحث عن حلول، يتم حالياً صوغها عبر أكثر من قناة، آخرها زيارة رئيس الوزراء الياباني إلى طهران.
محلياً، وبهذا السياق الكبير، ستبقى التفاصيل خاضعة إلى عملية التفاوض اللاحقة سواء بين الإيرانيين أو الأميركيين، أو بين لبنان وإسرائيل من خلال إحياء عمل اللجنة الرباعية.
هذا كله يندرج ضمن مسار يتضح أكثر فأكثر، منذ الموقف اللبناني الموحد عبر الرسالة اللبنانية للسفير الأميركية اليزابيت ريتشارد، حول موافقة لبنان على البدء بالمفاوضات لترسيم الحدود، والذي ما كان ممكناً لولا موافقة حزب الله. وبطبيعة الحال، لا تنفصل هكذا مناخات عن الإفراج الإيراني عن نزار زكا وترحيب وزارة الخارجية الأميركية بهذه الخطوة.
العامل الروسي وانتخابات إسرائيل
قد لا يعني هذا التوافق العام على المبدأ، أن إنجاز الاتفاق تفصيلياً سيكون سهلاً، لكنه خطوة متقدمة إلى حين تبلور التفاوض بين الروس والأميركيين أيضاً، فالأميركيون يريدون الدخول إلى لبنان للضغط على الروس عبر هذه المنطقة في شرق المتوسط، التي تحتوي على كميات كبرى من الغاز، والقادرة على تغذية أوروبا بإمدادات الغاز والنفط بأسعار أقل وبما يكسر الابتزاز الروسي لأوروبا في هذا المجال. ولعل واشنطن تضغط على موسكو في ملفات أخرى، من بينها ترتيب بعض الأمور في سوريا، ربطاً أيضاً بترسيم الحدود ومناطق النفوذ. وهذا ما لا يمكن إغفاله عن تطورات العلاقة الأوروبية الأميركية. لكن هذا الضغط لن يؤدي بالضرورة إلى صدام، بل هدفه الوصول إلى ترتيب الملفات. فالمبالغة بالضغط على موسكو سيؤدي إلى تعزيز علاقتها الاستراتيجية مع طهران.. على الرغم من الاستعداد لعقد قمة أميركية روسية إسرائيلية في تل أبيب في الأيام المقبلة.
وبما أن التقديرات تشير إلى أن السياق العام للاتفاق قد ارتسم، فلا بد من انتظار الوقائع على الأرض، خصوصاً أن جولة ساترفيلد على المسؤولين اللبنانيين ركزت على أخذ إجابات واضحة حول آلية التفاوض، والتي ستكون خاضعة لمطبات عديدة، أبرزها نقطة تبادل الأراضي، والتي قد تكون محط اعتراض لبناني. ولذلك طلب لبنان سابقاً عدم إلزامه بمهلة زمنية لإنجاز الاتفاق، تحسباً لاحتمال وقوع تطورات سلبية إقليمياً ودولياً. خصوصاً أن الرئيس نبيه برّي يتوجس من أن تكون كل التحركات التي تجري تهدف إلى خدمة نتنياهو في الانتخابات، وأي مساعي إيجابية يجب الحذر منها كي لا تكون خدمة لنتنياهو فقط، وبعدها لا تتلاشى بنود الاتفاق.
منير الربيع - المدن