قد تتحكّم بعض النوازع العاطفية برجال السياسة في بعض المراحل. فيحيّد السياسيّ واقعيته عن قراراته وأفكاره، ويلجأ إلى الانفعال تأثراً بحجم الحملات والضغوط التي يتعرّض لها. لكن أسوأ ما في هذه الحالة عند رجل السياسة، أنها تشيح بأنظاره عن جوهر الأمور أو أبعادها، فينحصر انفعاله بغايتين. الأولى، ردّ الهجوم الذي يتعرض له بهجوم مضاد. والثانية، الإصرار أكثر على موقفه وإن كان على سبيل "النكاية". وعندما تتملك النوازع الشخصانية أو العاطفية سلوك السياسي، يصل غالباً إلى الصدام مع الأقربين إليه، بدلاً من الخصوم أو الأبعدين. وأسوأ ما في تلك النوازع، هي تظهير أي موقف مخالف أو معارض لسلوكه وتصرفاته كأنها مؤامرة كبرى.
نشوة التسوية
وبما أن الرئيس سعد الحريري يبدو متمسكاً بالتسوية مع التيار الوطني الحرّ رغم كل شيء، فهذا يعني أنه صار من الخامة نفسها، على قاعدة التطبّع. وحين يواجه مشكلة لا يكون قادراً على حلّها ولا مواجهتها، بات يلجأ إلى الهروب نحو الأمام، بفتح معارك جانبية مع آخرين، سواء كانوا حلفاء أو باعتبارهم من الضعفاء، طالما أنه غير قادر على مواجهة القوي.
منذ أسبوعين، يتعرّض الحريري وفريقه ومحور وجوده السياسي، أي اتفاق الطائف، إلى أعتى الهجمات من قبل التيار الوطني الحرّ. وجد الرجل نفسه في طريق مسدود. غير قادر على المواجهة. فاختار أن يغيّر وجهة سلاحه، تجاه بعض الحلفاء القدامى أو بعض أبناء بيته الداخلي. وهو بذلك يبلّغ رسالة إلى من يهاجمه من خارج بيئته أنه لا يريد المعركة معه، بل معركته مع الذين يعكرون عليه صفو نشوته بالتسوية.
في خضمّ الهجوم العنيف الذي تعرّض له الحريري وفريقه وإرثه السياسي، بقي على صمته، محيلاً المعركة على عاتق أمين عام تيار المستقبل أحمد الحريري، الذي تولى الردّ على استهدافات التيار الوطني الحرّ. وفيما كانت ردود أمين عام المستقبل عالية السقف نسبياً، كانت هناك اتصالات في الكواليس تجري لتهدئة الأوضاع، وتأكيد التمسك بالتسوية. وقد تدخل فرقاء في تبريد الأجواء، بينهم رئيس الجمهورية وحزب الله.
التراجع والسكينة
بعد تلك الاتصالات، سرّب الحريري أجواء أنه ينتظر اتصالاً أو مبادرة من الوزير جبران باسيل، لإعادة ضخ الدماء في أوردة التسوية، وتبديد نقاط الخلاف والتصعيد. لكن التيار الوطني الحرّ بادر للرد على مصادر الحريري بالقول: "لا داعي لأي مبادرة أو أي اتصال، لأن باسيل لم يفتعل مشكلة مع الحريري، بل بعض من أبناء بيئة رئيس الحكومة هم الذين اخترعوا المشكلة، وعليه هو إسكاتهم ووضع النقاط على الحروف لوقف أي تصعيد". فما كان من المستقبل إلا التراجع والسكينة، استجابة لشروط التيار الوطني الحرّ. فتحولت المعركة بوجه وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، الذي أطلق صرخة أن التسوية تحتاج إلى إعادة نظر، وبوجه رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط.
قرأ التيار الوطني الحرّ رسالة الحريري بأنه لا يريد أي تصادم معه، بينما دخل في معركة جديدة مع جنبلاط، ومع بعض السنة المعارضين للنهج السائر عليه رئيس تيار المستقبل. ويبدو أن الحريري وفريقه تطبّعوا بنهج التيار الوطني الحرّ. إذ كان التيار الوطني الحرّ عندما يصر على تمرير ملف ما، سواء كان سياسياً أم غير سياسي، وعند عرقلته، كان يلجأ إلى الهجوم على "المستقبل" بالتحديد، وشنّ حملة شعبوية بذريعة أن مشاريعه الإصلاحية تتعرقل، ويضع الجميع أمام خانة "إمّا يقرّوا له ما يشاء، أو يتعرضون لأعتى الحملات". على هذا المنوال صار يتصرف أيضاً "المستقبل" والحريري.
اليوم أصبح هذا النهج، سمة من سمات تيار المستقبل. وهذا يتجلى في أي انتقاد سياسي يتعرض له التيار أو رئيسه، وآخره كلام أمين عام المستقبل أحمد الحريري الموجه لجنبلاط قائلاً: "هيدا الحكي مش إلك يا بيك يلي بيناتنا أكبر بكتييير من مجلس بلدي إذا شايف غير شي خبرنا". وأساس الخلاف هو أن ثمة اتفاقاً بين المستقبل والاشتراكي على أن تكون رئاسة البلدية في شحيم ثلاث سنوات للمستقبل وثلاثاً أخرى للاشتراكي، إلا أن المستقبل تدخل وضغط على الأعضاء لعدم تنفيذ الاتفاق. وهذا يعني أن المستقبل يريد أن ينكث بالاتفاقات، ويفعل ما يريد من دون أي اعتراض من أي طرف، على قاعدة "ما بيننا أكبر بكثير".
في النسيان والتذكّر
تطور السجال بين نواب من الإشتراكي وآخرين من المستقبل، على نحو ظهر لباسيل أن الحريري يتحاشى معاركته وينقض على خصوم باسيل تحديداً!
ربما، يستحضر "المستقبل" ساعة يشاء الأمور الكبيرة التي تجمعه بجنبلاط، ويتناساها في لحظات أكثر أهمية كلحظة تشكيل الحكومة، بل وتسديد الطعنات تلو الطعنات، عن قصد أو غير قصد. بكل الأحوال، فإن نقل الحريري المعركة لمواجهة جنبلاط والمشنوق وكل من يحاول الاعتراض، يؤكد أنه لا يريد سوى استمرار التحالف مع باسيل مهما كلّف الأمر، ومهما كانت الأثمان باهظة عليه وعلى بيئته. قد يعتبر أن هذا التحالف وحده هو الذي يحميه كرئيس للحكومة، ولو على حساب الصلاحيات وتعرية الموقع.
سعد الحريري يقول للجميع: "الأمر لي، ولا مجال للاعتراض". قد يرى مصلحته في ذلك، لكنه ينسى مسألة أساسية، انه في عزّ الهجمة التي تعرّضت لها طرابلس بوصفها منبع الإرهاب، وفي عز الحملة التي نظّمت ضد السنية السياسية والشعبية، كان وليد جنبلاط وحده يدعو إلى عدم شيطنة السنّة، ووقف تعميم نظريات الحقد والكراهية تجاههم.
منير الربيع - المدن