تبقى القدرة على "الاستشراف" ميزة في السياسة بل شرطها أحياناً. لحظة تفجّر الحنق "المستقبلي" على تصرّفات التيار الوطني الحرّ ووزرائه، تشير إلى أن القدرة على التمييع والتسويف لم تعد مجدية، أو بالأحرى لم تعد القوى المصّرة على دفن الرؤوس في الرمال، وتقطيع الوقت، رهاناً على تسوية أو تمسّكاً بشعار "التسوية لحماية البلد"، قادرة على كبت غضبها. لكن حال الغضب المتنامي هذا لدى تيار المستقبل بمسؤوليه على مختلف مستوياتهم، كان قد سبقهم إليهم جمهورهم، وجمهور واسع عريض مما كان يسمّى قوى 14 آذار. خيار التسوية يوم أبرم، كان يوحي بأن مآلات الأمور ستصل إلى هذه النتيجة.
الثور الأبيض
المشكلة ليست فقط وليدة حكم صدر بحق المقدم سوزان الحاج، بعد تدخلات من قبل مسؤولين في التيار الوطني الحرّ، وعلى رأسهم وزير الدفاع الياس بو صعب، الذي زار المحكمة العسكرية يوم صدور الحكم، الأمر الذي دفع أمين عام تيار المستقبل أحمد الحريري، لوصف ما جرى بالتدخل بعمل القضاء لتغيير مجرى الحقيقة، وهذا يمثل اعتداءً على الدستور والسلطات. وحتى إنفجار الغضب المكبوت، وإن كان ابن ساعته، إذا ما استمرّ تيار المستقبل بالحفاظ على هذه التسوية، إلا أن مسببات الحنق والغضب موجودة وقائمة ومستمرة، في ظلّ انعدام أي خيال سياسي وأي نباهة في التيار منذ ثلاث سنوات.
المشكلة التي تأخر تيار المستقبل كثيراً في اكتشافها، يشكل نهجه السياسي أحد عواملها الرئيسية. لحظة تبرئة سوزان الحج، تشبه إلى حدّ بعيد لحظة إخلاء سبيل ميشال سماحة. يومها لم تغيّر المحكمة العسكرية قرارها إلا بعد ضغوط في الشارع، وحينها لم يكن الشارع لتيار المستقبل وحده، بل كانت مختلف شرائح قوى 14 آذار المتناثرة، والقابلة لإعادة الإستجماع عند أي محطّة أو مفصل أو حدث. وحتى بعد إطلاق سراح سماحة، ومن ثم إعادة محاكمته مجدداً، وبعد إدخاله إلى السجن، عاد تيار المستقبل إلى سياسته المعتادة، وهي المهادنة والتسوية، وكأن شيئاً لم يكن، متغافلاً عن مبدأ "أُكلت، يوم أكل الثور الأبيض".
دوس الطائف
المسار التصعيدي الذي انتهجه التيار بعد الحكم في قضية الحاج، يمثّل قبولاً شعبياً واسعاً ليس لدى بيئة المستقبل، وبمعنى أوضح ليس لدى الجمهور السني فقط، بل لدى شرائح مختلفة ومتنوعة، كانت بحاجة إلى استعادة رفع الصوت، لإرساء التوازن. وعلى الرغم من افتقاد التوازن في المؤسسات الدستورية من حكومة ومجلس نيابي بعد التسوية الرئاسية، فلا خيار غير الشارع، سيكون قادراً على التأسيس لاستعادة هذا التوازن، وضرورة الانسجام مع تطلعاته بعيداً من "البراغماتيات التبريرية"، ليس لإعادة إحياء الإصطفاف العمودي، أو لإرساء الانقسام السياسي أو الذهاب نحو التصادم، بل لحفظ الكرامات على الأقل، كرامات المؤسسات والفصل بين السلطات والدستور، التي أعلن رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، يوم إبرامه التسوية مع الرئيس ميشال عون، بأنه يقدّم هذا التنازل القاسي من أجل الحفاظ عليها والحفاظ على الطائف.
كان على المستقبل، الاستشراف باكراً، لمخطط الدوس على اتفاق الطائف، والذي بدأ مساره عملياً في وضع قانون الانتخاب، وخاض التيار الوطني الحرّ انتخاباته على أساس ضرب الطائف في السياسة وليس في النصوص، تحت شعار تحريضي وطائفي هو "استعادة الصلاحيات". وهذا أيضاً يتلاقى مع كلام واضح ومكرر لوزير الخارجية جبران باسيل، الذي يصر على هذا الشعار. وبغض النظر عن الكلام الأخيرة لباسيل، خلال لقائه مجموعة شباب سنّة في البقاع، واللغط الذي أثاره، لباسيل مواقف أخرى مشابهة وأسوأ، وإن لم تكن بتلك الفظاظة التي تسرّبت عن لقاء تل ذنوب. في الأساس جلسات مجلس الوزراء التي تعقد بقصر بعبدا، وتذيّل بعبارة أن الجلسات عقدت برئاسة رئيس الجمهورية، ربطاً بآلية سير عمل مجلس الوزراء، كلها تشير إلى القفز فوق الطائف، تماماً كما كان الوضع أيام تشكيل الحكومة والشروط التي وضعت أمام رئيسها لتأمين ولادتها.
راحة الحريري!
والاستفاقة المستقبلية، وإن كانت متأخرة، فخير من أن لا تحصل أبداً. صحيح أن السيف قد سبق العزل سياسياً، لكن بالنظر إلى عمق الأزمة، فهي أيضاً تتخطى تجميد العمل باتفاق الطائف. المشكلة تبقى بنيوية، وهنا يتضح الفارق بين منهج عمل التيار الوطني الحرّ، الذي يكسب رئيسه الشعبية، ومنهج عمل تيار المستقبل الذي يخسر رئيسه الشعبية والفعالية السياسية. فعندما يذهب التيار الحرّ إلى تسوية، يبقي في حساباته خطاباته الصدامية، ويتعاطى وفق ما يريده جمهوره، بخلاف المستقبل الذي يحاول إقناع جمهوره بما لا يمكن أن يقتنع به، تحت شعارات حماية البلد وما إلى هنالك. ليس المجال هنا للدخول في تقييم أي من المسارين السياسيين أفضل، وكيف يمكن اتخاذ القرارات، إنما هي فقط مقارنة بسيطة. يتمسك جبران باسيل بكل أسلحته على مختلف الجبهات، الطائفية والمذهبية والعنصرية بالإضافة إلى المدنية ومحاربة الفساد وتحصيل الحقوق وترشيق الإدارات، بينما يتناسى المستقبل جمهوره وقضيته بل ومبادئه، فتقتصر قضيته واحدة موحدة، منحصرة بمؤتمر سيدر حالياً وأرقامه الاقتصادية، وبالحفاظ على الموقع، وإن بلا صلاحيات في السياسة. بينما باسيل مثلاً لجأ إلى الاستقالة من الحكومة ذات مرّة، فعزز شعبيته، وكان مع حلفائه قادراً على تشكيل حكومة أخرى، واليوم قادر على الفعل نفسه... في حين أن المستقبل عند ذهابه إلى التسوية مع التيار الوطني الحرّ، نسي حلفاءه، وأقصى كل الصقور أو من "يقلقون راحة تسوية الحريري"، وسلّم كل أوراقه لباسيل، ففقد أي ورقة قادر على استخدامها، وفقد الجنبات التي يأمن للإتكاء عليها. في مقابل استمرار باسيل على التحالف مع الحريري إلى حدّ استنزافه، وحفاظه بالوقت ذاته بتحالفه مع حزب الله.
دار الفتوى والمختارة ومعراب
من الواضح، أن الإحراج الذي أصاب تيار المستقبل، هو الذي دفعه إلى رفع الصوت عالياً، ورفض الفضيحة التي حصلت في المحكمة العسكرية. الموقف الذي أطلقه النائب نهاد المشنوق من دار الفتوى، ورمزية المكان الذي أطلق منه، دفع المستقبل إلى الوقوف على قدميه، وعدم تمرير ما حصل. وهذا مؤشر لا بد من البناء عليه، خصوصاً عندما يخرج شخص كالمشنوق وهو كان أحد عرّابي التسوية والعاملين على إنجازها والتمسك بها، معلناً أنه لا يمكن الاستمرار بها كما هي عليه. ما يعني أن المستقبل لا يمكن أن يتخذ الخيارات التي يريدها جمهوره من دون استدراجه إليها أو حشره لاتخاذها. وهذا المسار يجب أن يستمر، من قبل المشنوق أو غيره، كما لا يمكن اقتصار الصرخة على العامل السنّي الذي يشعر بالإحباط.
مشكلة المستقبل من مشكلة حلفائه (السابقين) في قوى 14 آذار، يفتقدون لعامل المبادرة والتنسيق، إلا أن هذه الضربة على الرأس، يجب أن توقظ ما تبقى من حمية للردّ على كل الضربات التي سددت لهم، وهذه لا سبيل لها، بغير استكمال الحراك، وإعادة تفعيل اللقاءات بين القوى المتضررة أو الرافضة للتسوية، بحيث تفرض على المستقبل، وإن كان يريد الاستمرار بالتسوية بعد مرور موجة الغضب من حكم المحكمة العسكرية، أن يعيد حساباته في شارعه. ولا يمكن استعادة تلك الحسابات، من دون التحرك سريعاً باتجاه المختارة ومعراب لإعادة إرساء التوازن. هو توازن ضاع إلى حدّ إلتهاء تيار المستقبل في اشتباكه مع الوطني الحرّ على حكم قضائي إجرائي، بينما المسار السياسي والاستراتيجي مفقود في البلد. إذ في لحظة هذا التشابك، كان الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، يحدد المقبول والمرفوض في سياسة لبنان الخارجية، ويعلن أن موقف رئيس الحكومة في قمّة مكّة لا يمثّل لبنان، فماذا تبقى من الحكومة وسط صمت خصوم حزب الله، وعدم ردّ أي منهم على كلام نصر الله بما يخص القمة والنأي بالنفس والهجوم على السعودية أو عبر اعلان الاستعداد لبناء مصانع صواريخ في لبنان. كلام نصر الله المدوي لم يجد من يردّ عليه، بينما باسيل سيردّ سريعاً على كل ما طاوله من حملات، بحملة تصعيدية ومضادة، وإذا ما عاد المستقبل إلى وضع رأسه في الرمال، فعندها عليه السلام.
منير الربيع - المدن