فجّر مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس قنبلة من العيار الثقيل، تمثّلت بحضوره شخصياً الجلسة الأخيرة لمحاكمة المقدّم في قوى الأمن الداخلي سوزان الحاج، والمقرصن إيلي غبش، أمام المحكمة العسكرية بجرم "فبركة ملف المتعامل مع إسرائيل للممثل المسرحي زياد عيتاني". فقدم مرافعة مطوّلة أمام المحكمة طلب فيها كفّ التعقبات عن سوزان الحاج، لعدم توفر أركان جرم تدخلها بفبركة ملفّ عيتاني، واستطراداً إعلان براءتها لعدم كفاية الدليل، فيما طلب إنزال أشد العقوبات بحق المقرصن غبش.
مفارقات مدوّية
مفاجأة جرمانوس المدويّة، لم تقتصر على الصدمة التي أحدثها في قاعة المحاكمة وأروقة المحكمة العسكرية، إذا سرعان ما تردد صداها القوي في الخارج، لكونها انطوت على مفارقات عدّة أهمها:
أولاً: إن حضور جرمانوس جلسة المحاكمة طرحت أسئلة عن خلفياتها وتوقيتها، خصوصاً أنها المرّة الأولى التي يمثّل فيها النيابة العامة العسكرية على قوس المحكمة، منذ أن عيّن في منصبه قبل عامين.
ثانياً: إن مطالبته بإعلان براءة سوزان الحاج، يخالف ادعاء النيابة العامة العسكرية بالجرم المسند إليها، والذي قارعها فيه كل القضاة الذين مثلوا النيابة العامة على مدى الجلسات الثماني المتتالية من محاكمة الحاج وغبش في هذه القضية.
ثالثاً: إنها المرّة الأولى، أو النادرة جداً في تاريخ القضاء، التي يطلب فيها المدعي العام اعلان براءة المتهم، بوصفه خصمه الأول وأحياناً كثيرة يكون خصمه الأوحد خلال مرحلة المحاكمة.
المعركة مع عثمان
لكن المراقبين لمسار الجلسة، وللسياق الذي وردت فيه مرافعة القاضي جرمانوس، رأوا أن المرافعة تمثّل في مضمونها، واحدة من المعارك التي يخوضها مفوض الحكومة بمواجهة المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، انطلاقاً من عوامل متعددة. أولها، إن عماد عثمان سبق له أن أقال المقدم الحاج من مركزها كرئيسة لمكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، غداة إشارة الـ (like) التي وضعتها على تغريدة المخرج شربل خليل التي أساء فيها إلى المرأة السعودية، عند صدور قرار السماح لها بقيادة السيارة. وثانيها، للردّ على عثمان وشعبة المعلومات، بعد إحراجه جرّاء نقل ملف التحقيق مع زياد عيتاني من عهدة أمن الدولة إلى المعلومات، وإثبات واقعة تركيب ملف الممثل المسرحي. ما أظهر جرمانوس في موقع ضعيف يومها، كونه أعطى الأمر بتوقيفه بداية ثم انتقل إلى مقرّ أمن الدولة واستجوبه شخصياً من دون أن يكتشف فبركة هذا الملف. وثالثها، إن سعي جرمانوس للحصول على براءة واضحة لسوزان الحاج، يشكل التفافاً على قرار اللواء عثمان بإحالة الحاج على المجلس التأديبي واتخاذ الأخير قراراً بطردها من قوى الأمن الداخلي، قبل أن يستأنف وكلاؤها القرار وتحال على الهيئة العليا للتأديب. ورابعها، وهو الأهم، أثبتت وقائع جلسة المحاكمة، أن مفوض الحكومة يستخدم أسلحته كافة في المواجهة مع عثمان، بعد أن ادعى عليه شخصياً، واتهمه بمخالفة قراره القاضي بفتح تحقيق بمخالفات مزعومة ارتكبتها قوى الأمن الداخلي عبر إعطاء الأذونات بحفر آبار ارتوازية، والتغطية على مخالفات بناء، وتعديات على الأملاك البحرية والنهرية، والترخيص لكسارات تعمل خلافاً للقانون، واستكمالاً لادعائه السابق على شعبة المعلومات، بجرم المترّد على قراراته.
الإشادة بمهنية الحاج
يكفي أن القاضي جرمانوس قدّم بنفسه الدليل على ذلك، إذ أعلن في مرافعته المطوّلة أن سوزان الحاج "هي ضابط أثبتت نجاحها في مؤسسة قوى الأمن الداخلي، وبراعتها في اكتشاف جرائم المعلومات، لكن معضلتها تكمن بوجود مشكلة مع قيادتها أدّت إلى نقلها من مركزها"، مؤكداً أن المقرصن ايلي غبش "خلق فكرة الجريمة (فبركة ملف الممثل عيتاني) بعد التنسيق مع جهاز أمن الدولة، ثم عرضه لاحقاً على المقدم الحاج".
مفوض الحكومة الذي أدى دوراً يتقدّم على دور وكلاء الدفاع، سعى إلى تقويض الجرم المنسوب للمقدم الحاج لجهة التدخل بجرم فبركة الملف، معتبراً أنه "لإثبات جرم التدخل يفترض أن تكون المتهمة قدمت للمتهم غبش معلومات أو دفعت له المال، وهذا لم يتحقق". وقال "قد يكون غبش أخبرها بالأمر بينما كانت هي بأسوأ الأحوال متفرجة، لكنها أظهرت أنها متفرجة غير محترفة، وعلى فرض أنها اطلعت على السيناريو الذي حصل، فهذا لا يشكل جرماً". وخلص جرمانوس إلى الطلب من المحكمة إبطال التعقبات القائمة بحق الحاج لعدم توفر عناصر الجرم، واستطراداً إعلان براءتها، فيما طلب انزال أشد العقوبات بحق المقرصن غبش، الذي يحترف تركيب ملفات العمالة وتوريط أشخاص أبرياء من هذه التهمة.
المرافعات
بعد مرافعة جرمانوس المدوّية، وغير المسبوقة بتاريخ المحاكم اللبنانية، ترافع وكيل غبش المحامي جهاد لطفي، الذي اعتبر أن ما أقدم عليه موكله لا يشكل جرماً من وجهة نظر القانون، إذ لا جريمة من دون نصّ، خصوصاً أن زياد عيتاني اعترف بالتعامل مع إسرائيل من دون ضغوط، وهو من تسبب لنفسه بالتوقيف لمدة طويلة. وطلب اعلان براءة موكله لعدم توفر عناصر الجرم بحقه.
ثم ترافع المحامي رشيد درباس (وزير الشؤون الاجتماعية السابق)، بوكالته عن سوزان الحاج، وشدد على أن "الملف يفتقر الى أي دليل عن تورط موكلته بما نسب اليها، ورأى أن "مجرّد معرفة الشخص بارتكاب جريمة أو التحضير لها لا يشكل جريمة، طالما أن المعرفة لم تقترن بمساعدة الفاعل أو حضّه على ارتكاب الجريمة"، مؤكداً أن "كل المعطيات تثبت أن المقدم الحاج تبلغت لاحقاً بوجود ملف ضد زياد عيتاني لدى جهاز أمن الدولة، ولم تكن على علم مسبق بالأمر، وخلص إلى طلب كفّ التعقبات بحقها واستطراداً اعلان براءتها مما نسب إليها.
وبعد انتهاء المرافعات أعطي الكلام الأخير لسوزان الحاج وايلي غبش، فطلبا البراءة.
الحكم
قضت المحكمة العسكرية الدائمة برئاسة العميد الركن حسين عبد الله، وبالأكثرية، بإبطال التعقبات بحقّ المقدم في قوى الأمن الداخلي سوزان الحاج، من جرم التدخل بفبركة ملف الممثل زياد عيتاني، لعدم توفر عناصر الجرم بحقها، لكن المحكمة أدانتها بجرم كتم معلومات وحبسها لمدة شهرين وتغريمها مبلغ 200 ألف ليرة لبنانية. وجرّمت المحكمة بالإجماع المقرصن ايلي غبش بفبركة ملف عيتاني، وأنزلت بحقه عقوبة الأشغال الشاقة لثلاث سنوات، وتخفيض العقوبة إلى السجن سنة واحدة.
المصدر: المدن