يوم سعى الاميركيون لإنجاز ترسيم الحدود البرية والبحرية، ركزوا في مفاوضاتهم، على فصل الترسيم بينهما. وكانت غاية الأميركيين فصل مسار التفاوض اللبناني عن مسار التفاوض السوري، كي لا تدخل سوريا كعامل معرقل أو مؤجّل للمفاوضات. لذا كان موقف المسؤولين اللبنانيين، وخصوصاً حزب الله والرئيسين نبيه بري وميشال عون، رفض هذا الفصل، مشدّدين على وجوب التلازم بين المسارين. والتلازم في الترسيم البرّي والبحري لا يخرج عملياً عن معادلة وحدة المسار والمصير، أي عدم فصل لبنان عن سوريا في المفاوضات لترسيم الحدود مع العدو الإسرائيلي.
الهمّ الأميركي
يفترض أن يعود المبعوث الأميركي ديفيد ساترفيلد في اليومين المقبلين إلى بيروت لاستكمال مباحثاته بغية الاتفاق على التقنيات اللوجستيّة المتعلّقة بآلية إطلاق المفاوضات برعاية الأمم المتحدة. لكن وفق ما تشير بعض المعلومات، حتى لو بدأت هذه المفاوضات، لن يكون بالإمكان الحديث عن ترسيم الحدود بالمعنى الرسمي. إنما أقصى ما يمكن الوصول إليه هو وضع خط أزرق بحري مشابه للخطّ البرّي، من شأنه إتاحة الفرصة لبدء عملية التنقيب عن النفط، وذلك بهدف عدم فصل مسار التفاوض اللبناني عن السوري.
يتركز الهمّ الأميركي حالياً على منع حصول أي تطورات أو توترات على الحدود، بغية إيجاد تسوية لاستخراج النفط. ولكن يبقى السؤال الأساسي حول وحدة الموقف اللبناني من تلازم المسارين. وهنا تشير مصادر متابعة إلى أن كل القوى السياسية في لبنان مهتمة بالشروع في التنقيب عن النفط لما للأمر من فائدة أساسية تعود على الاقتصاد. وتوضح المصادر أنّ التلازم بين المسارين لن يكون جدياً كما يصوّره اللبنانيون في الإعلام. والمفاوضات عندما تبدأ ستبدأ من نقطة الناقورة، أي آخر نقطة برّية يمكن الانطلاق منها لإنجاز الترسيم في البحر. أمّا الحدود البرّية شرقاً وصولاً إلى مزارع شبعا فستكون مؤجّلة، جرّاء عدم الاتفاق مع النظام السوري.
عرقلة النظام السوري
وفق ما تؤكّد المعلومات، على الرغم من إقرار النظام السوري شفهيّاً بلبنانية مزارع شبعا، إلا أنّه غير مستعد على الإطلاق تسليم أي خرائط تثبت ذلك، كونه لا يريد التخلّي عن أي ورقة تفاوض في وسعه استخدامها، خصوصاً أنّ النظام السوري يعتبر أنّ لديه إشكاليّة في ترسيم الحدود بين سوريا وفلسطين، تعود إلى ما قبل العام 1967. فسوريا سيطرت على أراضٍ فلسطينية، وكان الوجود السوري يتعدّى الحدود الدوليّة المتّفق على تقسيمها، لجهة طبرية، وطالب حافظ الأسد دائماً بالعودة، من خلال المفاوضات، إلى ما قبل العام 1967. وهذا الواقع الفلسطيني السوري يسري على لبنان ومنطقة مزارع شبعا.
ولا تقتصر الإشكاليات مع النظام السوري على الحدود البرية جنوباً، بل تنسحب على طول المناطق الحدوديّة المشتركة بين البلدين براً وبحراً من جانب الحدود الشمالية، حيث يمتدّ الخلاف على مساحة ألف كيلومتر مربّع. ويرتبط الإشكال بشقّين سياسي ومالي. وبالتالي لا يمكن الشروع في الترسيم براً وبحراً مع العدو الإسرائيلي من دون إنجاز الترسيم مع سوريا. ولذا تتوقّع مصادر متابعة أن يشكّل هذا الملف عنواناً خلافياً كبيراً في الفترة المقبلة، خصوصاً أنّ النظام السوري لا يريد ترسيم الحدود مع لبنان لأسباب عديدة ومعروفة. أوّلها عدم اعترافه بترسيم بعض المناطق الحدودية، وثانيها الاحتفاظ بورقة كبيرة للتفاوض.
صفقة القرن
سيذهب النظام السوري وبعض حلفائه إلى ربط الحديث حول ترسيم الحدود بملفات أخرى، مثل صفقة القرن، وفرض وصاية دوليّة على المناطق الحدوديّة بين لبنان وسوريا، لرفض إنشاء أبراج مراقبة وتعميمها على كل الحدود، شبيهة بالأبراج البريطانيّة في عرسال والهرمل. فالنظام السوري سيرفض وجود ما يشبه وصاية أو مراقبة دولية على الحدود اللبنانيّة السوريّة، كون الأمر يتعارض مع مصلحته في هذه المرحلة، خصوصاً لجهة ضبط معابر التهريب غير الشرعي. كما أنّ النظام سيربط هذه الملفات كلّها، بمعادلة إخراج السلاح الفلسطيني من المخيّمات بغية عرقلة مفاوضات ترسيم الحدود. علماً أنّ المطلب الأخير سيوقع الفريق الموالي للنظام السوري في تناقض، إذ أنّ بند إخراج السلاح الفلسطيني من المخيمات أقرّ بالإجماع على طاولة الحوار في العام 2006، في الجلسة عينها التي أقرت فيها لبنانية مزارع شبعا، لكنّه رفض لاحقاً البحث في ملف السلاح الفلسطيني. وعندما أثار وليد جنبلاط أخيراً ملف مزارع شبعا وضرورة ارتباطه بعملية الترسيم، شنّ هذا الفريق هجوماً عليه، داعياً إلى الالتزام بمقررات تلك الجلسة. فكيف لهذا الفريق الخروج على مقرّرات تلك الجلسة في ما يتعلق بالسلاح الفلسطيني في المخيمات؟
المزيد من العراقيل
للتذكير، عندما أقرّت طاولة الحوار تلك القرارات في العام 2006، اتخذ النظام السوري موقفاً عنيفاً جداً تجاه لبنان، معتبراً أنه أسقط معادلة وحدة المسار والمصير، وكرّس مبدأ الفصل بين السلاحَين المقاومين اللبناني والفلسطيني عن بعضهما البعض وعن الموقف السوري. كما أنّ الاجتماع الذي عُقد بين الرئيس سعد الحريري وأحمد جبريل، في العام 2007 واستمرّ لسبع ساعات، من أجل البحث في كيفيّة تفكيك تلك المخيّمات ونزع الأسلحة منها، لم يفض إلى أي نتيجة. لذا فإن استحضار ملف المخيمات الفلسطينية المنتظر، ما هو إلّا لعرقلة مسار ترسيم الحدود، خصوصاً أنّ بعض المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا، خاضعة لسيطرة حزب الله، وبعضها الآخر خاضع لسيطرة الجبهة الشعبية القيادة العامة.
يوحي السياق العام للأمور بأن هناك مساعي من قبل بعض القوى لعرقلة مسار التفاوض حول الحدود البرية والبحرية مع العدو الإسرائيلي، خصوصاً أن ثمّة طرحاً أساسياً يتمّ تحضيره، سيتركّز على أنه لا يمكن إنجاز هذه المفاوضات قبل تعديل القرار 1701، ما يعني إدخال المسألة في نفق آخر سيصعب الخروج منه.
منير الربيع - المدن