الذكرى في ذاتها
سيبقى تاريخ 25 أيار يوف فخر للبنانيين، وسيكررون أنهم في هذا اليوم شهدوا خروج قوات الاحتلال الصهيوني من الأرض، التي أقام فيها بالقهر والعدوان لسنوات طويلة. التاريخ معزولاً عن تداعياته اللاحقة، يجب حفظ "عزلته" عن ملاحقه السياسية والاجتماعية، إذ سيكون من شأن كل دمج بين إنجاز التحرير وبين توظيفه اللاحق، توجيه سهام النقد والتشكيك إلى ذات الإنجاز ومضمونه. وهذا ما يستدعي خلطاً واختلاطاً، ينفي الواقع ومقدماته التي جعلت التحرير واقعاً، ويسقط التراكمات الأولى ومعناها الثمين، سياسياً ووطنياً، في معرض رفضه للتراكمات والمعاني اللاحقة، التي بدَّدت رصيد التحرير وبعثرت الثمين من معانيه ومن مضامينه الوطنية والاجتماعية. الاحتفال بيوم التحرير فعل وطني لبناني، لا يجب أن يكون موضوعاً خلافياً بين اللبنانيين، والتباين حول قراءة ما بعد هذا اليوم يجب أن يظل فعلاً وطنياً أيضاً، بحيث لا تكون الموافقة على الاحتفال ممراً إلى رحاب الصفة الوطنية، ويكون الاعتراض على "أيديولوجيا" الإحتفالية باباً خلفياً يُدفع من خلاله كل معترض على تقاليد وصنمية وجمود البيان الانتصاري.
أهل التحرير
الدعوة إلى الاحتفال وطنياً، بحدث التحرير، تستدعي دعوة المحتفلين رسمياً به، إلى مغادرة الاستحضار الأحادي المنحاز لفئة "تحريرية" وتعمُّد استبعاد فئات أساسية غيرها، كانت هي الفئات التأسيسية لفعل المقاومة الوطنية اللبنانية، عندما كانت قوات العدو الصهيوني في قلب العاصمة بيروت، وظلَّت الفئات إياها صاحبة الفعل الميداني الأول في عملية التحرير الذي تمَّ على مرحلتين، الأولى وكان تاريخها في عام 1985، والثانية وكان تاريخها في عام 2000.
قسمة التحرير قسمة عادلة بين أهله، لا يغيب عنها أن الشطر الأكبر من الأرض اللبنانية المحتلة جرى استرجاعه في عام 1985، وكان صاحب الفضل الأول فيه الشيوعيون اللبنانيون، على تعدد أسماء تنظيماتهم، هؤلاء الذين كان لهم أيضاً سبق الإعلان التاريخي، إلى الدعوة إلى قتال الاحتلال وإلى تأسيس جبهة المقاومة الوطنية في 16 أيلول عام 1982. الاعتراف بالدور النهائي المميَّز للمقاومة الإسلامية عام 2000، يجب أن يسبقه الاعتراف، ودونما التباس، بالدور المميَّز للمقاومين الذين رسموا درب المقاومة الوطنية، ونهضوا بأعباء وتضحيات هذه المقاومة. نحن إذن أمام فعلين وطنيين: الاحتفال بالتحرير كيوم وطني عام، والتنويه بالمقاومين، كل المقاومين، الذين هم أبناء الوطنية اللبنانية العامة، الحريصين على صيانتها وعلى حمايتها من التهديد الداخلي، ومن الاستهداف الخارجي، من خلال كل السياسات الوطنية الجامعة الرشيدة.
تضامن الما قبل
ولم يكن المقاومون وحدهم من صَنَعَ "الاستقلال الثاني" بعد تحقيق مهمة طرد الاحتلال، ولم يكن العمل المقاوم عملاً تنظيمياً حزبياً فقط، بل إنه كان تعبيراً عن قبول كتل أهلية واجتماعية لخيار القتال ضد العدو، وعن إعلان إرادة الصمود في وجه آلته الحربية، وفي مواجهة خططه السياسية وأهدافها الموزعة على محطات زمنية عديدة. القبول الاجتماعي الذي تخالطه نكهة القبول الأهلي، شكل القاعدة العريضة للقوى الأولى التي بادرت إلى المقاومة الوطنية، وهذه الأخيرة كانت وريثة لمجمل نضال الحركة الوطنية اللبنانية، ووريثة في الوقت ذاته للقاعدة الاجتماعية التي جرت الإشارة إليها.
شهدت قاعدة القبول تبدلاً في ميزان القوى داخل بنيتها في حقبة التسعينات من القرن الماضي، فغلب على لوحتها لون الشيعية السياسية على صعيدين: صعيد تصدُّر قيادة العمل المقاوم من قبل الثنائية الشيعية، حركة أمل وحزب الله، وصعيد الدعم الخارجي الذي رعته الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وسهلت سبله ومكَّنت له السياسة السورية، التي أدارت "صمود" امتناعها عن الحرب وعن السلم بصمود اللبنانيين وبتضحياتهم الجسيمة. ولم يكن تبدُّل التوازنات في جسم العمل المقاوم وفي قاعدته تبدلاً تقنياً، بل كان أقرب إلى التحوُّل الذي نقل جوهر المقاومة من موقع وطني داخلي إلى آخر، وجعل مقاييس وشروط نقاشها والاتفاق معها أو الافتراق عن رؤيتها، مقاييس تلامس الخاص الداخلي أكثر فأكثر، بالتناسب مع الانزياح المتوالي للمقاومة بكليّتها، صوب الخاص الخاص بها، أي بعيداً من العام الوطني الذي شكل قاعدة التضامن اللبناني الواسع مع مبدأ تحرير الأرض من الاحتلال، ومع تسهيل تمهيد السبل أمام هذا الهدف الوطني الكبير، من منطلق التنوع في الوحدة السياسية، حول تحديد العدو، وحول أولوية الانصراف إلى مقارعته. خلاصة ذلك: اتخذ التوافق اللبناني حول "المقاومة" أشكالاً عديدة، توزعت على الدعم العملي وعلى الإسناد الكلامي وعلى عدم المشاكسة أو التشويش على ضرورة إنجاز التحرير، ليكون لتلك الأطياف من اللبنانيين كلماتها من موقع المعترض، بعد أن أقامت في موقع المتفق، ودائماً لسبب وطني أملته المصلحة اللبنانية العامة.
خلاف الما بعد
القول بخلاف الما بعد مقصود لذاته، فهو يعيد ما ذكر بأن المقاومة ضد الاحتلال، خصوصاً في شطرها الثاني، أي مع المقاومة الإسلامية، لم يكن موضع خصومة من قبل اللبنانيين، كذلك تشرح كلمة الما بعد، نفي القراءة الأحادية لمعنى الوطنية، فتسقطها هذه الأخيرة فقط عن الذين ارتضوا أن يكونوا مادة عداء تؤازر العدو وتساهم في تنفيذ مخططاته. فَهْمُ الما بعد على هذا الوجه، هو المدخل الصحيح إلى مراجعة الحرب الأهلية اللبنانية، حين يكون الاعتراف والصفح والوعي وتمثل ما حدث والاستفادة منه، هو الدرس النقدي الأساسي لكل أطراف الحرب الداخلية اللبنانية، كذلك فإن هذا الفهم يؤسس لقراءة أخرى تقطع بين حربين: حرب اللبنانيين البينية، اي بين دواخلهم العديدة، والحرب ضد العدو الخارجي. هذا القطع الواعي يمنع تحويل الاحتلال إلى اقتتال آخر بين اللبنانيين، والنظر إليه بصفته امتداداً لحربهم الأهلية الأهلية. انطلاقاً من ذلك، قدمت الوقائع شواهد كثيرة على توظيف إنجاز التحرير، وعلى أيدي من وصلوا بالقتال إلى محطة انتصاره، في غير مطارح تطوير تضامن الما قبل، ليصير نواة اندماج داخلي في مرحلة الما بعد، ثم قامت وقائع كثيرة تثبت أن حرب اللبنانيين الساخنة ما قبل انطلاق المقاومة الوطنية والمقاومة الإسلامية، عادت لتصير حرباً باردة، أي من دون سلاح، لكنها ساخنة جداً على كل الجبهات الطائفية والمذهبية، حيث الأسلحة الأشد فتكاً، من التعصب والفئوية والسعي إلى الهيمنة والتلاعب بالوحدة الداخلية وعدم الاكتراث بكل مقومات المصير الوطني. وحدها المكابرة تستطيع الهروب من معاينة سوء الوضع اللبناني الحالي على كل صعيد، ووحدهم المكابرون يهربون من معاينة الاحتلالات التي بات يقيم في زنازينها اللبنانيون، فالكل محتل اليوم بالعوز وبالخوف من المستقبل وبعدم الاطمئنان إلى الحاضر، وبالتشاؤم مما قد يحمل الغد، وبالنفور من الآخر الذي تعددت صوره، فباتت المساكنة معه فعل اضطرار بعد أن سدّت سبل الخلاص والحوار.
وبعد ذلك
لقد استعاد اللبنانيون ما كان محتلاً من أرضهم، لكن من يفتي اليوم بكيفية تحريرهم من رهاناتهم وارتهانهم؟ كان اللبنانيون أقوياء فتحرروا، ثم ضعفوا واستضعفوا، فمن هو المسؤول عن سلب قوة اللبنانيين والاستيلاء على آمال أعمارهم؟ ومن نسأل؟ من أضاع إنجازاً ليس معنياً بالجواب، لكنه موضع مسؤولية ومساءلة، هذا حتى لا نقول إنه في مرمى أسئلة الإتهام.
لقد اختمر الوضع اللبناني طويلاً فكانت له ثمار إيجابية ذات عقود، وكانت له ملامح اندماج وكان له نصر عظيم. انتصر اللبنانيون ثم انهزموا فعادوا سيرة القهقرى... من تضامن عابر إلى اهتزاز مستدام، وما زال السؤال يتكرر: كيف الوصول إلى "صنعاء" الوطن ولو طال السفر؟
أحمد جابر -المدن